ثقافة

ما وراء الجَمَال

بشرى الحكيم

بعد 150 عاماً على كتابتها، هاهي رسالة ستنشر قريباً، دوّنها في لحظة نزق أو غضب تشوه الصورة التي عرف بها أعظم كتاب الفترة الفيكتورية تشارلز ديكنز من لطف وتهذيب ورقي، والذي وصف دائماً بالإنكليزي المثالي، والرسالة كان وجهها ديكنز إلى ابنة صديق له تدعى فلورنس ماريوت وكانت في بدايات محاولاتها الأدبية، وقد أرسلت له طالبة منه إبداء الرأي والنصح في قصة كتبتها تود أن تُنشر في مجلته الأدبية التي كانت تصدر حينها، ما أخرج الأديب الكبير من هالته التي عُرف بها من اللطف والرقي، عبر رسالة مطولة مليئة بعبارات التأنيب والغضب، واصفاً قصتها بالمبتذلة حيناً والزبالة حيناً آخر” يذكر أن ماريوت التي لم تثنها الرسالة عمّا عزمت عليه، تمتلك رصيداً من الروايات تجاوز الستين أهدت الكاتب الكبير إحداها يوماً ما.
أهو الجمال يدير الرأس؛ فلا ندرك ما يخفي صاحبه؟
أذكر أن من بين من عرفتهم من الشعراء واحداً عملت معه عن قرب، تأخذك أشعاره وكتاباته إلى عالم من المثالية والرقي هو المرتجى، بينما وفي لحظة من البحث عن سعادة خاصة؛ كان لا يتوانى عن التلذذ بكل أطايب الدنيا حتى وإن كان أبناؤه يعيشون يومهم “خبزنا كفافنا”، وهاهي جحافل من الملائكة والأنبياء والرسل المنتظرة تجوب الصفحات الزرق اليوم؛ لا يكشف زيفهم إلا من كان لصيقاً بهم في الواقع، فالأمر إذن؛ ليس وليد هذا العصر الذي أغرقنا بوسائل تساعد في تسويق الزائف والأصيل على السواء، بل لربما ولد مع ولادة الإبداع والكتابة، في تجسيد طبيعي للتناقض الحاصل بين ما يكتبه الإنسان وما يعيشه في الواقع، لأنه في حقيقة الأمر وفي لحظة الإلهام يستسلم لقيادة العقل والوجدان، ولغة مطواعة غنية تساعده على تجسيد الأحلام التي يود أن يعيشها أو الشخصية التي يحلم أن “يكونها”، وهو ما يجعلنا نسلم بحتمية، أنْ ليس جميع المبدعين الذين أداروا عقولنا و”فُتِنّا” بهم يوماً من الأيام، وجعلوا أرواحنا ترفرف مع أقلامهم، ليسوا جميعهم مثالاً للكمال على أرض الواقع، بل ربما هو التأكيد والبرهان أننا جميعاً يلوننا السواد والبياض، يسكننا الشيطان كما تسكن الملائكة، ويسكنهما الصراع على الدوام. وهو ما يلزمنا أيضاً بالاعتراف أن ليس كل ما يمر أمام العين من إبداع هو واقع صاحبه؛ وإلا.. وإلى أن نعثر على المدينة التي مات دونها أفلاطون، علينا الإقرار أن للإبداع وظيفة تنحو منحى الكمال والقيم وما يرضي الوجدان حتى إن لم يتحلى بها مبدعها، يجسد من خلالها؛ ما يحلم أن يكون أو ما لابد أن يكون.