ثقافة

سميح القاسم نحن نقاوم.. نكتب أشعارً ..

 

ها هي كوبا بعد خمسين عاماً من الحصار انتصرت، وقد انتصرت شعوب كثيرة إذ قاومت، وصمدت، ومازالت شعوب أخرى كشعبنا السوريِّ تقاوم، وسوف ننتصر، لأنَّ المقاومة قانون الحياة:
“أنا أقاوم إذاً موجود”….
منذ أوَّل الخليقة وجد الإنسان مقاوماً للظروف الطبيعيَّة القاسية اللكداء، فالأرض غير مواتية للحياة، وقاوم جيرانه الألداء كواسرَ الطبيعة من حيوانات مفترسة، كذلك الأمراض الفتاكة، وغضب الأرض بزلازلها وبراكينها، وغضب السماء بمطرها الغزير المدمِّر، وثلجها القارس، وعواصفها وصواعقها.

بعد ذلك تأتي مقاومة الإنسان لاستغلال أخيه الإنسان بعدما دخلت الملكيَّة الخاصَّة حياة البشر، واحتل الغزاة أراضي غيرهم لنهب خيراتها، وجعلها سوقاً لمنتجاتهم، إضافة إلى استيطانها المباشر، كما فعل الصهاينة باحتلالهم أرض فلسطين العربيَّة، وادعائهم زوراً وبهتاناً أنَّها أرض إسرائيل الموعودة.

ولادة مع الثورة
لم يستطع جيل النكبة مواكبة الحركة الشعريَّة العربيَّة، وظلَّ أبو سلمى، والبحيري، وهارون هاشم رشيد، ويوسف الخطيب، يكتبون القصيدة الخليليَّة إلى أن انطلقت الثورة في الأوَّل من كانون الثاني 1965، فكأنَّ روحاً أخذت تدبُّ في الشعب الفلسطيني، والعربي أيضاً، تدفعه إلى الأمام بتسارع لم يكن يتمتَّع به من قبل.
“لقد شكَّلت حركة الشعر الثوريِّ برهة عارمة في حركة الشعر العربيِّ المعاصر، الَّذي أخذ ينحدر بينما راح الشعر المقاوم ينهض، لأنَّ الشعراء أكثر الناس استجابة لروح العصر، فولد الشعر المقاوم مع ولادة الثورة الفلسطينيَّة، إذ أحال الشعراء الفجيعة إلى أغنية راعشة، يسكنها شيء من الانتشاء بالألم، لكنَّها تختزن من التفاؤل، والإشراق، وحبِّ الحياة أكثر ممَّا تحمل مفرداتها من حزن وتفجع” كما يقول الناقد يوسف سامي اليوسف في كتابه القيِّم “الشعر العربي المعاصر”.
ولقد وحَّد شعراء المقاومة بين الأرض والمرأة، الأرض بوصفها أمَّاً كبرى، والمرأة بوصفها أمَّاً وزوجة. فإن كان شعر النكبة موت في لا شعور الشعراء، فإنَّ الثورة هي القيامة، أو انبعاث تموز في الربيع، ذلك أنَّ الأرض محور الصراع التاريخيِّ مع العدوِّ الصهيونيِّ الَّذي يسمِّي فلسطين كذباً أرض إسرائيل.
وقد عبّر سميح القاسم عن عملية السقوط، أو التحطُّم، ثمَّ العودة إلى الحياة من جديد، حين قال في بيت من الشعر، يحمل من الصراحة أكثر ممَّا يحمل من الرمزية:
إن كان خنوعي للفؤوس ضحية
جذري إله في الثرى يتأهب

ويضيف في قصيدة “هذا الطريق”:
أبداً على هذا الطريق
راياتنا بصر الضرير وصوتنا أمل الغريق
أبداً جحيم عدونا، أبداً نعيم للصديق

ماذا يفعل الشعر المقاوم بنا؟
مع حضور المقاومة في الشعر اتَّسع نطاقه، ليشمل أكثر من نخبة مثقفين، قرَّاء معدودين بعدما امتزج بعرق الفدائيين، وأهازيج الناس وسط حالة اليأس والندب، فأخذت صدورنا تنتعش بهواء جديد، يؤكِّد على أحقيَّة الكفاح من أجل التحرير، ليس تحرير الأرض فحسب، بل تحرير الإنسان أيضاً من عوامل الضعف، والتخلف، وغيرها.
وجاء شعر سميح القاسم يمزج الكفاح بالعروبة، فكلاهما طريق واحد لتحرير فلسطين، فانبهرنا بشيء اسمه شعر المقاومة، وكنَّا قبله نندب فلسطين، والواقع العامَّ المؤلم.
فالعربي تحت هيمنة الاحتلال وسطوته إمَّا أن يصبح غريباً إلى الأبد عن وطنه، أو مقاوماً في أرضه بين مواطنيه الصامدين المقاومين، لا خيار آخر، ولأنَّ الإبداع دم ثانٍ للمقاومة تصبح القصيدة منشوراً يحرِّض على المعاينة الجديدة للفعل الثوري.
في الخمسينيات انتكبنا فرددنا بالوحدة عام 58، لكنَّ النكبة الثانية جاءت مع الانفصال البغيض، تتبعها هزيمة حزيران عام 67، وواكب الشعراء عامَّة هذه النكبات، وواكبها شاعرنا المقاوم سميح القاسم بالأشكال التالية:
لقد برع في استخدام التراث الشعبيِّ، كي يؤكِّد أحقيَّة شعبه بأرض فلسطين تشبثاً بالجذور، وشهادةً على أنَّ الشعب الفلسطيني هو صاحب أرض فلسطين:
في الكتب أشياء عجيبة
وربابة الأعمى تكذِّبها
وآثار المضافة والزريبة

كذلك برع في التأكيد على الهويَّة القوميَّة كما في قصيدة “هكذا” ص499 من ديوانه، والحقيقة أنَّ الكثير من قصائده يستمدُّ أنسجته من البعد القومي للتاريخ العربي وأخصُّ بالذكر قصيدة ليلى العدنية، وقصيدة خطاب في سوق البطالة من ديوانه “دمي على كفي”:
ربَّما أخمد عرياناً وجائع
يا عدو الشمس لكن لن أساوم
وإلى آخر نبض في عروقي سأقاوم

الشاعر والبطل توءمان
لقد نهض الشعراء في الأرض المحتلَّة بلا قادة حين حرمهم العدو من إمكانية بناء طليعة سياسيَّة تقود النضال في الوطن المغتصب، وكان شاعرنا المقاوم سميح القاسم على رأس هؤلاء الشعراء، وفي مقدمتهم، ولعلّ الاطلاع على سيرة حياته، وتعرضه المتكرِّر للاعتقال والسجن مرات كثيرة يؤكِّد على تبنيه لهذا الفعل المقاوم إضافة إلى الشعر، فمنذ الستينيات تنمُّ أشعاره عن نفس قوميٍّ وطنيٍّ أصيل، وهي تحمل نزعة سرديَّة، أو نفساً حكائيَّاً، وامتاز بشعبيته، وقربه من الناس عامَّة، لذلك أشعاره مغناة، وقد كتب أنواعاً جديدة في الشعر منها: السربية، والكولاج، وتبادل الرسائل مع محمود درويش. لكنَّ ما يلاحظ توجُّهه إلى السرد مباشرة عبر روايتين مهمَّتين هما:
“الصورة الأخيرة في الألبوم، وإلى الجحيم أيُّها الليلك”، ولهذا ما له من شعور برغبة أعمق لتوثيق الحالة الفلسطينيَّة والعربيَّة المقاومة عموماً، فحتَّى هاتين الروايتين يبدو فيهما النفس المقاوم جلياً بوضوح، ولهذا حديث آخر.

أيمن الحسن