ثقافة

المحبةُ أبجديّةُ الرّوح

وسام محمد ونوس
وقفتَ ومافي الموتِ شكّ لواقفٍ
كأنّكَ في جفنِ الرّدى وهو نائمُ
لطالما سحرني الوصفُ العبقريّ في بيت الشّعر هذا للمتنبّي, كم يقتربُ الموتُ منّا, وكم نعلمُ أننا كدنا نسكنُ في عينيهِ وهو غافلٌ عن التصاقنا بهِ, غير منتبهٍ لتجاوزنا حدود الحياة, غير مدركٍ أننا على مسافةِ طرفةِ عينٍ, ونبضةِ قلب! لكننا ننجو بحظّ ربما كما يظنّ البعض, بقدرٍ أحياناً كما يحلو للآخرين القول, بإيمانٍ لدى أكثريةٍ من النّاس, بمساندةِ أرواحٍ كما يحلو لي أن أترجمَ الموقف! لا يمكن لي أن أتخيّل أن الرّوحَ كائنٌ منفصلٌ تماماً عن بقيّةِ أرواحٍ متعايشةٍ معها, تُشاركُها جسداً واحداً أو خيالاً واحداً أو حلماً مجنوناً! الأرواحُ تساندُ بعضها, تدفعُ عن بعضها البلاء واليأس, وربّما تُنقذُ أرواحاً عزيزةً من براثن الموت. الموتُ بكل أشكالهِ, الغيابُ, والوجودُ المُغيّب, والتجاهلُ! كم وقفنا بين جفنّي الرّدى, كم أحسسنا أننا قطعنا حبل وريدِ الأمل, كم تجرّعنا مرارةَ الاحتضار! لكننا عُدنا ونعودُ دوماً, بقدرةِ ذاكَ الذّي يُعطي دونَ مِنّة, بقدرةِ تلكَ التي تمنحُ دونَ حساب, بقدرةِ القلبِ المتشبّثِ بنبضاتٍ كسيرةٍ كثيرة! سننجو, كلّنا مُترفونَ بالوجع, متنقّلونَ ما بينَ القبورِ والأسرّة, قدمٌ راسخةٌ في أرضِ الصّبر, وأخرى متقلقلةٌ تحت ترابِ اليأس, لكننا نعلمُ أن أرواحاً نحبّها وتحبّنا, تشدّ رغبتنا إلى الحياةِ باتجاهِ الضوءِ الخافت, تبتسمُ في وجهِ حزننا العتيد, ترقصُ على مسرحِ صمتِنا الأقربِ إلى التواطؤ مع الموت! إن لم تكنْ المحبّةُ هي الّتي تشدّنا إلى الحياة, فما قيمةُ حياتِنا إذاً؟ ما هي رسالتُنا كبشرٍ لولا المحبّة؟ المحبّةُ رداءُ الرّوحِ الإنسانيّة, ثوبُها المزركشُ الباهي, صورتُها الجميلةُ في دواخلنا, ماهيّةُ وجودها. المحبّةُ هي الحياةُ بأسْرِها,وبقيّةُ الأحاسيس تتبعُها وتكمّلُها. المحبّةُ تُنقذُ من الموتِ حتماً, تُحيي في نفوسِنا ما ماتَ من أملٍ,تُعيدُ إلى ذاكرتِنا نبضاً كادَ أن يخبو, تميّزُنا عن باقي مخلوقاتِ الله. لا يمكن لأيّ مجتمعٍ أن يتطوّرَ بدون المحبّة,هذا إيماني المُطلق, مهما بلغتْ درجةُ الفكرِ, ومهما أنتجَ المجتمعُ من طاقاتٍ إبداعيّةٍ خلّاقة, ومهما نما الاقتصاد وازدهرت الصّناعة, تبقى المحبّةُ جسراً بين كلّ هذه المكوّنات, جسرَ تواصلٍ وتفاعلٍ وتكامل, لا بدّ للبشرِ أن يعبروه, في تعاملاتهم, وتفاعلاتهم,وتجارتهم.
وبالعودةِ إلى بيتِ الشّعر في بداية المقال,فإنّني أؤكّدُ على أن الشّعرَ أيضاً مرهونةٌ أقدارُهُ برسالةِ المحبّة، فكيف يكونُ الإنسانُ شاعراً وأديباً إن لم يكلّل جبينَ قلبهِ تاجُ المحبّة؟ المحبّةُ وجهُ الرّوحِ المُنعكسِ على ملامحِ النّبض, والمحبّةُ إحساسُنا بأنّ الآخرَ إنسانٌ مثلُنا, يحتاجُنا ونحتاجهُ, يعيشُ من خلالِنا, ونحيا معه. والمحبّةُ توقفُ الحروبَ عندَ حدّها وإن طالَ الزّمن, والمحبّةُ تجبرُ الخواطرَ المكسورةَ مهما اشتّد ألم السّقوط, والمحبّةُ دينٌ إنسانيّ التقتْ عند تعاليمهِ كلّ أديانِ السّماء. في كلّ ما سبق, كنتُ أحاول أن أجمعَ ما بينَ الرّوحِ الإنسانيةِ والمحبّة,فهما وجهانِ لحياةٍ ذاتِ رسالة. الأرواحُ تتحكّم بمسارِ حياتنا,فهي الّتي تسيطرُ على الأجسادِ من خلفِ السّتار, وهي في طبيعتِها مُحبّة, طيّبة, خيّرة, لكنّها تتأثّرُ بطبيعةِ الحياةِ, والتّجاربِ, والبيئةِ المُعاشة! لا نعلمُ عن الرّوح سوى ما تفصحُ لنا بهِ مخيّلتنا, لكأنها لغزٌ أُريدَ له أن يبقى طيّ الفضول! من يعلمُ كم من الأرواحِ تسكنُ جسده! من يعلمُ إن كان قد جذبَ آلافاً منها تتصارعُ في مساحاتِ جسده! نحن لا نعلم, لنا أن نتخيّل كلّ ما نستطيع, لنا أن نأنسنَها لنقتربَ منها, لنا أن نحاولَ فهمها بتطبيقِ عاداتنا وتصرّفاتنا على مجتمعها المُبهم! المحبّونَ قربَكَ دائماً عليكَ فقط أن تبحثَ عنكَ في أعينهم, أن تلتقطَ ملامحكَ من وجوههم, أن تتعرّفَ على حنانكَ في أصواتهم, أن تحنّ إلى ماضيكَ الجميلِ في حضرتهم! من يمتلكونَ الأرواح الإنسانيّة يستطيعونَ بأقل جهدٍ ممكن ببساطتهم وطبيعتهم, أن يخرجوكَ من أوحالِ اليأسِ إلى ضفّةِ الهدوء اللذيذ, في قلوبهم مصلُ الأمل, يمدّونكَ بأسبابِ الحياةِ وأنتَ على سريرِ الكآبة,يتصفّحونَ أفكاركَ على حائطِ نظراتك, ويربّتونَ على كتفِ تنهيدتكَ، ويفرشونَ أمام خطواتكَ ياسميناً وفلّاً هم حولكَ, في داخلكَ,وخلفَ نحيبِ صمتكَ,وربّما أمام خيالِ ضحكتك, هم أقربُ من ذاتِكَ إلى خلايا الرّوح, عليكَ فقط أن ترتميَ بين أحضانِ مواساتهم, فهناكَ تطهّرت المحبّةُ من دَنَسِ الرّغبة, وأقامَ الصّبرُ سدّاً  لفيضانِ الدّموع. سننجو بقدرةِ المحبّة, بقدرةِ الكلمة, بقدراتِ الأرواحِ الطّيبة, التي تقفُ في وجهِ الموت حين يُباغتُنا, غير مكترثةٍ إلّا ببقائنا على قيدِ الأمل.