ثقافة

“اسم الوردة” لأمبرتو إيكو.. تفاصيل الحياة خلف الجدران المعزولة

تدور أحداث الرواية “اسم الوردة” لأمبرتو إيكو، أواخر العام 1327 الميلادي، فترة تعتبر من أكثر المراحل صعوبة التي مرت بها المسيحية؛ حيث الفتنة تشتغل بكامل “فتنتها”، الانقسامات تطال كل شيء؛ حتى الكنيسة نفسها كانت منقسمة على ذاتها، ولا وفاق بين البابا والإمبراطور؛ كلٍ منهما يسعى للسيطرة التامة دينياً وسياسياً.
وحيث كل الأمور تدعو كي ينشغل الكثيرون بالبحث عن مصالحهم وملذاتهم، يذهب آخرون بعيداً في العمل والبحث عن حلول يُخرج بها الكنيسة من انقساماتها، وحمايتها من المنافقين والمنتفعين، إذ ليس أسهل من الكسب السريع والحصول على الملذّات والمتع من مالٍ وأراضٍ وممتلكات وعلاقات؛ والنساء أيضاً اللواتي اعتبرن مصدر الشرور الدائم؛ يقول الراهب أوبارتينو لآدسو ممسكاً به؛ وقد لحظ نظراته العميقة إلى الفتاة الضحية: “إنك تنظر إليها لأنها جميلة، وترتبك لأجل ذلك” ويستطرد: “حذار يابني إن جمال الجسد لا يتعدى الجلد، ولو أن الرجال رأوا ماذا يوجد تحت الجلد لاقشعرّوا من مجرد رؤية المرأة”. في أوقات كهذه التي هي زمن أحداث الرواية، والحال كذلك؛ يصل إلى البلدة الجبلية النائية حيث الدير الشهير ساحة الأحداث المريبة، المحقق “غوليالمو دي باسكارفيل” قادماً في مهمة جليلة ومحاولة للبحث عن وسيلة للعودة بالكنيسة إلى وضعها الطبيعي من الوحدة والصلح وروح الدين المسيحي، يرافقه في رحلته تلميذه وكاتبه الخاص آدسو، الذي يقوم مقام الراوي للأحداث المقبلة.

رحلة الأيام السبعة
الرواية تغطي فترة الأيام السبعة التي أمضاها الاثنان في الدير؛ وقد اعتمد إيكو في تسلسل الأحداث على مخطوطٍ كان آدسو دوّنه لتسجيل الأحداث التي مرت به، حيث يشهد المقيمين والقيمين على المكان؛ جرائم وحشية متتالية وغامضة أثارت حيرة الجميع بما فيهم المحقق الشهير.
الجرائم التي ارتكبت استهدفت جميعها ضحايا من نسّاك ورهبان أو من الزوّار الذين يترددون إلى الدير؛ لسبب أو لآخر من أهل القرية، والتي ردّها سكان المكان الذين شهدوها؛ إلى روحٍ شريرة مقيمة داخل جدران البناء الكبير الغامض، ذلك لإبعاد شبح الاتهام الذي بات يحوم فوق رؤوس الجميع، سوى غوليالمو الذي ما زالت مهنته كمحقق تتحكم به، يستدل ويحتكم إلى عقله والبراهين، وخبرة طويلة في العمل لصالح محاكم التفتيش بين إنكلترا وإيطاليا، تلك التي تخلّى عنها بعد أن شهد خروجها عن الدور المرسوم لها من إرشادٍ للناس وأخذٍ بأيديهم إلى الهداية والإيمان؛ وحيث بات الجميع بالنسبة إليها مهرطقين وخارجين عن الدين، يقول آدسو وقد بات تلميذاً نجيباً لأستاذه الباحث عن الحقيقة الكلية: “ما رأيته في الدير؛ جعلني أظن أنه غالباً ما يخلق المحققون، الهراطقة، ليس فقط عندما يتخيلونهم حيث لا يوجدون؛ ولكن لأن شدة قمعهم لجدري الهرطقة تجعل الكثيرين يصبحون هراطقة كرهاً لهم، إنها حقيقةً؛ حلقة من صنع الشيطان”.
بعد سلسلة الأحداث الدموية المريبة وصدامات مع القائمين على الدير، مدفوعاً بخبرته الطويلة وفضول انتقلت عدواه إلى تلميذه، يتوصل غوليالمو إلى حلٍ لتلك الجرائم جميعها، ويكشف مرتكبها، ليأتي الحريق يلتهم المكتبة بكل ما تحتوي عليه من أسرار، والتي استحال إنقاذها لقلة مداخلها والوصول إليها؛ في إشارة أن المعرفة “قد تكون أداة لنشر الحقيقة؛ وقد تكون وسيلة تأجيل ظهورها” كل هذا بعد أن يأخذ القارئ في رحلة مغرقة بالغوص في تفاصيل الحياة الكنسية، تفاصيل العيش بين جدران الأديرة المعزولة عن العالم الخارجي؛ حيث تُحبك المؤامرات؛ وتُرتكب الفظائع “تحت ستار الدين؛ كما يجري الآن” وتنشأ الحركات الدينية المتعددة والمتنافرة فيما بينها، حيث الكل يُكفّر الكل.
في الرواية يعوّل إيكو على ذكاء وفطنة القارئ؛ فيشغله بالبحث معه، إذ يرمي بالدلالات والقرائن هنا وهناك في طريق المحقق والتلميذ، وحيث الاستدلال والتحريات هي وسيلة الباحث عن الحل الوحيدة؛ يقول غوليالمو للتلميذ كثير التساؤل عن قدرة معلمه المعرفية العالية: “أنا أحاول أن أعلمك كيف تلتقط الدلالات التي يلقي بها إليك العالم”.

المتاهة
شكلت المكتبة المغلقة البعيدة المنال دوماً، عنصراً أساسياً للرواية كما هي للمكان، حيث هي صورة عن المتاهة التي يعيشها العالم، ومحوراً لكل جرائم القتل، التي جرت بغية الإبقاء على كتاب أرسطو  المثير للجدل والمسموم، والذي كان سلاح الجرائم جميعها؛ بعيداً عن متناول أيدي الجميع والأهم ألا يتمكن غوليالمو من ذلك، في دلالة على السمة الجدلية السائدة، وتناقضات الحياة آنذاك بين البساطة والتعقيد، العقلانية والسذاجة الروحانية والواقعية، الاعتماد الشديد في التحليل على السحر من جهة بينما العلماء على امتداد بقاع الأرض، إذ كان باستطاعة زائر المكتبة- إن أتيحت له الزيارة- الاطلاع على كتب لعلماء من كل الجنسيات والانتماءات؛ يذكر غوليالمو باحترام شديد كتاب القانون لابن سينا ويستشهد بأقواله، يشير إلى كتاب الجبر للخوارزمي، وعلماء عرب كثر كابن حزم، ابن رشد، أيوب الريحاوي؛ يؤنب تلميذه كي يقرأ وقد أذهله اختراع آلة النظر “عينان بمسّاكة من الزجاج” التي يستخدمها معلمه: “عليك أن تقرأ بعض الكتب في علم البصريات؛ كما قرأها دون شك مؤسسو هذه المكتبة” ويضيف قائلاً: “أحسنها هي كتب العرب، لقد ألّف ابن الخازن كتاباً بعنوان زيج الصفائح، حيث يتحدث مستدلاً بالبراهين في علم المساحة؛ عن قوة المرايا”.

طبعة مخفّفة
رواية من الصعوبة بمكان والإثارة أيضاً، مثيرة للفضول؛ مستفزة لقارئها؛ تتطلب منه بذل الجهد ولصبر رموزها الكثيرة؛ الصبر وتحدي الإطالة في السرد أحياناً كثيرة – ربما كانت سمة الرواية في تلك الفترة-  والتي كانت على الأغلب أسباباً  دفعت بكاتبها إيكو لإصدار الطبعة الثانية المخففة منها بعد صدورها بأكثر من ثلاثين عاماً، الأمر الذي أثار الكثير من التساؤلات والسجالات حول أحقية الكاتب بإعادة كتابة روايته مرة أخرى، بينما الأمر بمجمله لا يتعدى- برأي صاحب الرواية- أنّه ألغى بعض الجمل المكرّرة والمتقاربة؛ قام بتعديلات بسيطة، فسّر معاني بعض الكلمات غير المفهومة باللاتينية، وترك هامشاً أوسع في الصفحات؛ وهو ما لا يستحق هذه التساؤلات التي لاحقت أيضاً؛ عنوان الرواية الغريب “اسم الوردة” والذي أتى خياراً من بين عشرة أُخر طرحها على أصدقائه؛ ربما أراد منه إيكو برمزيته الثقيلة أن يشير إلى جمالية الزمن الماضي الضائع.

بشرى الحكيم