ثقافة

شهداء أيار ومطلع المسيرة

د. صابر فلحوط

كوكبة من بواسل الوطنية والقومية استلهموا بعمق تاريخ الآباء والأجداد، وقيم الرجولة والحرية، واستوعبوا بعبقرية وإيمان قول الشاعر العربي:
عذر لمن مات، لا عذر لمن سلما
إذا تهدّم مجد واستبيح حما
سيان فوق دروب العز في وطني
من يحمل السيف أو من يحمل القلما
فكان معظمهم من الكتّاب، والشعراء، والأدباء، والمفكرين.. إنهم شهداء السادس من أيار 1916 الذين أعدمهم الاستعمار العثماني ممثّلاً بالسفاح (جمال باشا) في ساحتي المرجة في دمشق، والبرج في بيروت، وفي ساعة واحدة، إمعاناً في الحقد والكراهية والغطرسة التي هي من جبلة الاستعمار وأعوانه، ولم يدر أمير بني عثمان أنه بإعدامه أبطال أيار في لحظة هزيمة (السلطنة العثمانية)، وارتماء -عمامتها- المزيفة في الوحل، قد زرع في تراب بلاد الشام قامات شامخة ستظل الأجيال تحمل لها الإكبار والإجلال، وتحني لها الهامات عبر القرون، وتغني أغنيتها الشعبية الخالدة في قلب دمشق الصامدة والوفية:
زيّنوا المرجة والمرجة لينا
شامنا فرجة وهي مزيّنا
نعم فرجة وعبرة ودرس لمن يقرأ التاريخ، ويتعرّف أكثر على عظمة شعبنا، وتضحياته على مر الزمان، حيث شهدت أرضه الغزاة، والطغاة من يونان، ورومان، وعثمان، ومغول، وأوروبيين، وكلهم تذوقوا مرارة كفاح شعبنا وتضحياته العملاقة، وغادروا الأرض العربية، لتبقى جماهيرنا تحتفل بذكريات انتصاراتها التي تلهم أجيالها الصاعدة عظمة القيم العروبية المتوهجة نصراً في ليل الكوارث والأحداث الجسام.
لقد قال شهداء السادس من أيار-لا- مدوية وغاضبة في وجه الطاغية العثماني قبل أكثر من قرن من الزمان، كما يقول اليوم أبطال جيشنا العقائدي -ألف لا- في وجه الهجمة التكفيرية الإرهابية الوهابية الطاغية، ويدفعون الثمن الأفدح والأربح لحرية هي الأقدس والأغلى، وكرامة ترخص من أجلها الأرواح.
لم تسعف الأقدار شهداء أيار ورفاقهم الذين تأجل ميعاد شهادتهم أن يمتلكوا من أسلحة المقاومة والدفاع يومذاك سوى الكلمة، الخطبة، أو القصيدة، أو المقالة، غير أن كلمتهم الصبيغة بالدم الطهور استطاعت أن تفل عزائم المستعمر العثماني وسيوفه، وتجعل بنادقه أوهى من العصي، حيث إن النصر في خاتمة الشوط للفكر والموقف، وليس للجيوش الانكشارية الجرارة، وقادتها المأجورين القتلة، وقد استمرت الحرب سجالاً طوال أربعة قرون بين شعبنا العربي والمستعمر العثماني حتى قضى -الرجل المريض- مشيعاً بالمخازي واللعنات من جميع الشعوب التي ابتليت به، حيث ارتكب من المجازر، والانتهاكات، وإزهاق الأرواح، ما أصبح مثلاً للإجرام على مدى التاريخ، وحسبنا الإشارة إلى المجازر التي ارتكبها بحق إخوتنا الأرمن التي فاقت الوصف والتصور، ومع ذلك لم يزل -أردوغانه- يكابر ويرفض الاعتذار عن فعلة أجداده الشنعاء، إضافة إلى ارتكاباته بما يفوق ما ارتكبه أسلافه بدعمه الإرهاب التكفيري الوهابي ضد شعبنا العربي السوري طوال أكثر من سنوات خمس!!.
وكما اعتمد الاستعمار العثماني طوال قرون الظلام على خديعة العرب بتبني الرموز الإسلامية الكريمة (من عمامة وعباءة وجوامع وطقوس)
هاهو اليوم أردوغان يتنكب سلاح الإسلام زوراً وبهتاناً ويتبنى- إخوان الشياطين- ليكونوا (حصانه الرابح) لإعادة السلطنة العثمانية وإحكام الطوق من جديد على شعبنا الذي قدم أنهار الدماء من أجل كرامته وتحرره من الاستعمارين العثماني والأوروبي، ويتطلع لاستكمال وحدته العروبية القومية التي تستعيد فلسطين، وتحرر كل شبر محتل من ترابه.. إن ذكرى السادس من أيار بمقدار ما تفتح من الجروح وتفيض من الدموع، فإنها تجعلنا ندرك أكثر أبعاد المؤامرة الكونية المسماة بـ (الربيع العربي) التي تستهدف ترسيخ الكيان الصهيوني في الأرض العربية وتأبيده بؤرة عدوان دائم تهدد كل وحدة وتقدم وحضارة وإنجاز في الوطن العربي..
غير أن جيشنا المقدود من فولاذ الجهاد والاستشهاد والتضحية، وشعبنا الذي أمسى أمثولة للشعوب في الصمود والصبر، وقيادتنا عنوان الجدارة والجسارة والحكمة، لا بد أن تحقق النصر الأبهى، والأبهج كثمرة منتظرة، لحربنا الوطنية العظمى، والتي ستحرر الوطن، كما ستحرر العلم من وباء الإرهاب التكفيري الوهابي، وغطرسة القطبية الأحادية، وتقربنا أكثر من تحقيق أهداف أمتنا في الوحدة، والحرية، واستعادة رسالتنا الحضارية العروبية الخالدة.