ثقافة

أَليسَــــتْ هــــي الحَســــنَاء!

ويحق للحسناء أن تتباهى، يحق لها أن تتزين بكل ما في الأرض من رياحين وياسمين، فللذكرى عميق الأثر في النفوس  ويتعاظم حضورها يوماً بعد يوم.

يحق للحسناء أن تتباهى وقد استطاعت أن تتغلب على الوحش الذي يقف أمامها في صراع وجود، فكان لانتصارها وقعه في النفوس والمشاعر والأقلام، وفي قلب العدو كان مقتل، فللانتصار طعم جميل؛ وقد أتى بعد أن ترسّخت في العقول مصطلحات ومعاني بعيدة عن حلاوة النصر، مصطلحات رسّخت الهزيمة في الأذهان على مدى عقود من الزمن، لتأتي حرب تشرين علامة، وحداً فاصلاً في حياة العرب وتاريخ صراعنا مع عدو يقاتلنا في كل أسباب وجودنا “يقاتلكم  في انتماءاتكم الدينية وفي عقائدكم والأرض”.
حرباً كانت الفتح لما تلاها من كل معارك المقاومة بكل أنواعها في وجه عدو اعتاد أن يستسهل النيل من أصحاب الأرض، معوّلاً على أنه الأسطورة التي لن تقهرها “شعوب اعتاد أن يراها متقاتلة فيما بينها” لتأتي هذه الحرب التي أسقطت كل ما حِيْك من أساطير وأهوال حول عدوّها، وتهدي للعرب أول انتصاراته، وأول تحرير لأرضه وكرامة إنسانه، في تأكيد أن لروح الانتماء للوطن قبل كل شيء؛ القدرة على كسر كل استهداف للأرض والإنسان.
“إنه الوطن لست أنت، ولست أنا” كلمات قالها أحمد عبد المعطي حجازي؛ نعم إنه الوطن قبل كل شيء ومصلحته قبل كل المصالح، ليكون تشرين موسماً لحرب أسست لوعي مختلف في ضمير العرب والسوريين: “أن قرار الانتصار منوط بالإرادة التي إن امتلكوها في التوقيت الحاسم، كانوا الرد الحاسم، كانوا السيف والترس في آن معاً، دفاعاً عن وجودهم قبل كل شيء، وكانوا الرسالة التي لا بد وصلت؛ بأن علاقة هذا الشعب واتصاله بهذا العدو لن تكون إلا: “كاتصال الحديد بالحديد والنار بالنار”.
يا أيها المقاتلون عن حدود الشمس‏
في الجولان‏
هذه مواسم الرجال‏
يا أيها الذين تضربون أوجه الغزاة‏
في الجولان‏
هذه مواسم الرجال‏
أطفالنا وكتب التاريخ والقرى‏
والأمل المرسوم‏
فوق صفحة الحراب‏
والأشجار كلها تصيح: اضربوا
هي نداءات الشاعر عبد الكريم الناعم جسّد من خلالها المعنى؛ فلا يفل الحديد إلا الحديد.
للحسناء أن تتباهى وقد مسحت  آثار جراح الهزائم التي كرستها حتى كتب التاريخ؛ ولم تكتف بالجرح ثأراً لها بل حطمت صورة خصمها في عيون العالم فأذلته، صورة الوحش الذي في ساعات؛ بات يدرك أنه لا بد من إعادة حساباته قبل أي محاولة جديدة للنيل منها، فكانت بوابة لإطلاق هتافات الفرح من كل بقاع الوطن المقدس، ها هو نداء لتوفيق زياد:
الآن.. الآن.. الآن
الفرح المسقي دماً
ينبت في كل مكان
كان العبور مقدساً والشمس في عز/الظهيرة‏
والشآم تعود للجولان زاحفة على جسد/الردى‏
باسم الحياة، وكل ورد الأرض، صخر/الأرض‏
أسلحة تقاتل، والقذائف تسحق الفولاذ/بالفولاذ‏
والناس الدمشقيون كالغضب المقدس‏
يزحفون ويزحفون‏
كان العبور مقدساً، ومقدساً يبقى الوطن‏
فرح شرّعته عودة الحياة إلى الأرواح التي طال انتظارها لما يمحو انكساراتها.
يحق لها أن تتباهى وتعيش الحب في أنبل معانيه، وكي يدعوها الشاعر نزار قباني للحب وهل أجمل من تشرين موسماً للحب النبيل:
جاء تشرين يا حبيبة عمري
أحسن الوقت للهوى تشرين
ولنا موعد على جبل الشيخ
كم الثلج دافىء وحنون
صدق السيف حكماً وحكيماً
وحده السيف يا دمشق اليقين
اليقين الذي أثبت يوماً بعد يوم، أنه الرد الوحيد لعدو كان ومازال يخالف كل قوانين الإنسانية والأديان والأعراف، فاستحق مواجهته بالنار كما قال معين بسيسو:
أعطى الله عصاه لموسى ليشق البحر‏
ويهرب‏
لم يعط الله عصاه لموسى كي يضرب‏
حين عصا موسى صارت طائرة‏
كان الله‏
يحمل أكياس الرمل على ظهره‏
ويقيم متاريس دمشق‏
بل لا بد أنه الرد الوحيد على حيرة العالم المرتبك اليوم وكل يوم، لا يعرف إجابة لسؤال صغير حول الجميلة التي أرهقته: لمَ هذه البقعة من العالم بالذات؟ لم سورية بالتحديد!؛ لتأتيه الأجوبة صفعات على الوجوه: “لأنها الحسناء التي تأبى إلا أن تعزف لحنها الخاص، لحنها البعيد كل البعد عن سيمفونية الخضوع والتبجيل والطاعة العمياء، ولأنها سورية التي اعتادت عبر ماضيها البعيد وحضاراتها العريقة، ما اعتادت إلا أن تترك  بصمتها الفريدة، المؤثرة حتى في نفوس أعدائها، لتكون أهلاً أن تكون ابنة الحياة المستحقة التحية، فتحية لماضيك يا بلادي وسلاماً لك ولحاضرك وأنت تواجهين وحوش هذا العالم، ولكل ذرة من ترابك الغالي، لكل حبة عرق على الجباه المرفوعة، لتلك الهامات التي تحرس انتصاراتك؛ ولكل قطرة دم بذلها وسوف يبذلها أولئك الذين امتلكوا ناصية الخلود، فامتلكنا كرامة هذه الحياة.
بشرى الحكيم