ثقافة

هل تأثر السياب بالمتنبي حقاً..؟

من القصائد المبكرة التي تثير الاهتمام في ديوان السياب قصيدته (رثاء جدتي)، تلك البكائية التي نظّمها بعد وفاة جدته لأمه، ولعل جانباً من هذا الاهتمام، مصدره أن القصيدة تحيل الذاكرة إلى قصيدة في الموضوع ذاته لأبي الطيب المتنبي في رثاء جدته أيضاً، فنحن إذاً، أمام قصيدتين في غرض شعري، واحد هو نتاج معاناة واحدة خلقها مؤثر عاطفي ونفسي واحد، مثله موت امرأة يدين لها كل من الشاعرين بفضل الرعاية والوفاء لما قدّمته من تعويض عن أمومة مفتقدة عندهما، ولكن هذه (الواحدية) ينفرط عقدها عند حدود الانثيالات التعبيرية والبعد النفسي الذي تقحمت شجونه قصيدتيهما وأسلوبية التعامل مع المفردة وإيقاعها الدلالي.

فقد المتنبي أمه صغيراً، ولم يتح له أن يرى والده، فتكفلت جدته لأمه رعايته وتربيته، وإذا بلغ سن الشباب عاد إلى الكوفة، إلى البادية، ثم إلى حلب، مخلّفاً وراءه جدته تعيش غصة اللوعة والقلق والشوق إليه، وبعد أن تأتي سنين، ورد المتنبي من جدته كتاب تشكو شوقها وطول غيبته عنها، ولأنه لم يكن دخول الكوفة مباحاً له، أرسل إليها كتاباً يدعوها إلى ملاقاته في بغداد، وكان لذلك أثره في قلب الجدة المتعب من لهفة وانتظار، فماتت والكتاب القاتل بمسرته بين يديها، وحين وصل الخبر إلى المتنبي، رثاها بقصيدة له في الشهرة والمكانة في شعره ما لا يمكن لأحد أن يمر عليها سريعاً ومطلعها:
ألا لا أرى الأحداث مدحاً ولا ذم    فما بطشها جهلاً ولا كفها حلماً
وتوفيت أم السياب، وهو في الرابعة من عمره، وتركه والده في بيت جده، ليسكن هو وزوجته الجديدة بيتاً آخر، وظل الصبي في رعاية جدته لأبيه، ثم جدته لأمه التي استقر في السكن معها عندما ذهب إلى مدينة البصرة لإتمام دراسته الثانوية فيها، وفي الصيف الذي كان يتهيأ فيه للذهاب إلى العاصمة بغداد والتحاقه بالجامعة، توفيت جدته التي رعته ومنحته أمومة كان شديد الاحتياج إليها، فرثاها في قصيدة من بواكير شعره مطلعها:
رمتني أيدي القضا للشجون     إذ قضى من يردني لسكوني
كانت الخسارة النفسية لهذا الفقدان كبيرة لدى كلا الشاعرين، مما ملأ روحيهما بإحساس هائم من الألم واليأس، يقول المتنبي:
حرام على قلبي السرور فإنني    أعد الذي ماتت به بعدما سما
ويقول السياب:
فقليلٌ عليّ أن أذرف الدمع             ويقضي عليّ طول أنيني
ويصبر عن إحساسه الأليم، فيقول في رسالة إلى أحد أصدقائه متذكراً قسوة الفقدان عليه بعد أكثر من شهرين على حادثة الوفاة (أفيرضى الزمن العاتي.. أيرضى القضاء أن تموت جدتي أواخر هذا الصيف، فحرمت بذلك آخر قلب يخفق بحبي ويحنو علي، أنا أشقى من ضمت الأرض).
لا يمكن أن نرتضي القول: إن السياب لم يتعرف على شخصية المتنبي مجسدة في شعره أو شعر المتنبي، وهو ينطق بدلالات الأحداث التي تحركت فيها حياته، ولاشك في أن المتنبي بشاعريته قد أثار مخيلة شاعر شاب مثل السياب، وهذا التعرف مما تفرضه طبيعة الثقافة الأدبية التي تلقّاها السياب، وهو في أول مراحل تفتح موهبته الشعرية، خلال سني الدراسة ومراحلها، حيث يبدأ لديه الوقوف المقلد والتفحص الذوقي لما يمكن أن يستقر في ناسه وشاعريته من شعر للقدامى من الشعراء العرب الذين يقف المتنبي في صدارتهم شهرة.. إذاً، فقد عرف السياب شعر المتنبي، وأعجب بشاعريته، وهو ما صرّح به أكثر من مرة، وقد تلقف بعض الباحثين والنقاد هذا الإقرار من السياب ليثبتوا عليه القول بتأثر السياب بشعر المتنبي، ولعل تدبر شعر السياب قراءة وفحصاً يقود إلى ما يغيّر هذا الحكم، إذ لا تبدو تجليات هذا التأثير حقيقة يمكن تأثيرها، إذ ليس هناك من تماس في ملامح الشخصية لدى كل من الشاعرين، فضلاً على منطلقات الوعي الذي بني كل منهما سمات شخصيته، وما تسرب منها إلى شاعريته إن شاؤوا من الافتراق يمتد بين السياب (شخصية وتجربة وشاعرية وطموح)، وبين ما لدى المتنبي من ذلك كله.
تحمل القصيدتان الرثائيتان آنفتا الذكر الإشارة التي تفصح عن قناعتنا بالفرقة التي يتحرك فيها شعر السياب عن مناطق التأثر بشعر المتنبي، إن منطقية التحليل لمحتوى القصيدتين يقدّم الاستنتاجات الآتية:
لم يكن المتنبي ليفارق سمته الشعرية، فبدأ القصيدة حكيماً مفلسفاً فكرة الموت وسطوته التي يؤول إليها مصير الوجود الإنساني، وإذا انتقل إلى الحديث عن صوت جدته، لم يكن لينفصل عن أسلوبه الشعري، ونجد أن المتنبي نفسه قد أشار في أول قصيدته إلى أن الموت يشمل الناس جميعاً، إن رفضه لما هو حوله واعتداده عما هو ما يمكن أن يفسر الصيحات المتطايرة خلال القصيدة عن شموخه:
وإني لمن قومٍ كأن نفوسهم        بها أنف أن تسكن اللحم والعظما
وعن ضخامة قامة طموحه:
يقولون لي ما أنت في كل بلدة    وما تبتغي ما أبتغي جل أن يسمى
ولن تجد في قصيدة السياب صدىً لمواقف المتنبي، وتدفق مشاعره الضاجة بالكبر والتعالي، إذ يواجهك السياب بانكسار نفسي جعله يغرق قصيدته بإحساس راعب عن الموت الذي حاصر على روحه، وهو يشاهد جثمان جدته مسجى أمامه، ولأن فكرة ان تشل وعيه، فقد قادته إلى انحراف سلبي صارت فيه رغبة الموت أمنية يرتاح إليها ليتخلص من خوفه، بل لقد تمنى لو أنه لم ير جدته، ولم يعرفها أو تعرفه، أما حكمة المتنبي، فقد غابت عن القصيدة، وهي تنكفئ على تجسيدية راجفة لواقعة موت الجدة، لقد كان السياب في أشد لحظات صدقه الذاتي الذي هو سمة مهمة في شاعريته، لقد تغلبت الذات على ما سواها، ولم تدع غيرها يشاركها وجه القصيدة.
لقد أفاد الشاعران من واقعة خاصة بكل منهما، فقدّما نصين شعريين، توقفا عند فكرة الموت التي ترادفت الألفاظ والمعاني لإبراز محتواها الدلالي والشعوري، ولكن شتان ما بين التعامل مع المفردة عند كل منهما، فالمتنبي يملأ الألفاظ فخامة، وضجة موت، وتدفق إيمائي، في حين تنغلق اللفظة ذاتها على دلالة مبتسمة عند السياب، واستلهم المتنبي موسيقا البحر (الطويل) بامتداده، وطول النفس فيه إلى حد التمكن من إيراد المعاني، واستخدام السياب (الخفيف) بما يوحي به من حركة الموت الزاحفة إلى دواخل نفسه مما هو حوله من واقعة أليمة، وكانت قافية (الميم) المفخمة بالألف ترتفع في قوة الإيقاع وعلو صوت الشاعر، وهو ينفث في توقفه عندها هماً محتدماً في نفسه، ورددت قافية (النون) المكسورة أنين السياب وحشرجة الصوت المرتبك، وهو يحاول أن يتكلم وسط تلاشي القدرة على الارتفاع عن حالة الانسحاق التي يعيشها، وما حصل أمام روحه الغضة وعواطفه التي ما زالت حينها تنشغل بمراحل من التطلع الشعري الذي تفيض عليه رومانسية بدائية الأحاسيس.

د. رحيم هادي الشمخي