ثقافة

“ماجدولين”.. الاعتراف بالخطأ وتحمّل المسؤولية رائعـــة ألفونـــس كـــــار

“ماجدولين” أو “تحت ظلال الزيزفون”، هي باكورة أعمال “ألفونس كار” الأدبية، كتبها متأثراً بالمدرسة الرومانسية التي سيطرت على الأدب في تلك الحقبة من تاريخ فرنسا، وقد اعتمد على أسلوب المراسلة في تدوين أحداثها، تاركاً لعنصر الخيال دوراً أساسياً في تحريك أشخاص الرواية بين أحضان الطبيعة الخارجية التي أحبّها الكاتب، وجعلها الإطار الأساسي لروايته، وقد تأثر المنفلوطي برواية ألفونس كار، وبادر إلى نقلها إلى اللغة العربية، لما فيها من دعوة صريحة للتمسك بقيم الحق والخير والجمال التي تجسّدها البيئة القروية الريفية الساذجة، فأحداث القصة تدور في جو ريفي يتميز بالبساطة، والعفوية، والصدق، والإخلاص، والقناعة، شبيه بالجو الذي نشأ فيه المنفلوطي بمصر، على خلاف حياة المدينة القائمة على الخداع، والكذب، والغش، والنفاق، حيث يتهافت الناس على جمع المال دون مراعاة أبسط المبادئ والقيم الخلقية، حيث تحاول التأكيد على أن الخلاف الحاد بين بيئتي القرية والمدينة يؤدي إلى خلاف أكثر حدة بين مفهومين للسعادة: أحدهما يعتبر أن السعادة هي نتيجة نجاح المرء في التلاؤم والتكيف مع الظروف الواقعية التي تحيط به، والمفهوم الآخر يعتبر أن المال هو مفتاح السعادة، أياً كانت الوسائل المستخدمة في الحصول عليه، ولم يكن المنفلوطي يجيد اللغة الفرنسية لينقل رواياته مباشرة إلى اللغة العربية، لذلك كان يخرج غالباً عن الأصل، فيلجأ إلى الاستطراد، والإطالة، وإلى الحذف والإضافة، وفقاً لمزاجه، أو رغبة في إظهار مقدرته البيانية حيناً، واللغوية حيناً آخر، وكان ميله إلى المداخلة يدفعه إلى التخلي عن الترجمة الحرفية، والانصراف إلى إسداء النصائح والإرشادات، بما يتفق مع المفاهيم الأخلاقية السائدة في بيئته، لأن معظم قرائه كانوا من شبان وشابات مصر، وسائر الأقطار العربية.
الرواية في أساسها تدور حول فتى اسمه “استيفن” من أسرة متوسطة الحال، يحب المطالعة، ويعشق الموسيقا، ويأنس للطبيعة، ويجد لذته في العزلة والبعد عن الناس، يترك منزله بعد وفاة أمه، وزواج أبيه، ليسكن وحيداً في غرفة متواضعة، حيث يحب ابنة صاحب المنزل، واسمها “ماجدولين”، فتبادله الفتاة الحب، وتتغير نظرة الفتى إلى الوجود، ويمتلئ قلبه أملاً وبهجة، وتتكرر اللقاءات بين “استيفن وماجدولين” في أحضان الطبيعة الخلابة، وعلى ضفاف الأنهر، أو تحت شجرة الزيزفون القائمة في وسط حديقة المنزل، أو في زورق على صفحة البحيرة القريبة من المنزل، فيحلم العاشقان بحياة مستقبلية سعيدة، ويرسمان في خيالهما صورة بيتهما العتيد الذي سيضمهما، وسيكون بيتاً متواضعاً تحيط به حديقة مزروعة بأزهار البنفسج، وأشجار الزيزفون.
صور لنا “ألفونس” الحب ذلك السلاح الذي يقضي أحياناً على آمالنا، وربما على حياتنا، وهذا هو محور الرواية التي تدور أحداثها حول وفاء “استيفن” لمحبوبته “ماجدولين” التي لم تتردد كثيراً في بيعه بالمال، فتزوجت من صديقه “ادوار” الذي كان يقاسمه في المأكل والمسكن، ويتبدل الحال وينتقم الدهر، فيفقد “ادوار” ثروته وينتحر، تاركاً زوجته فقيرة ومدينة، بينما يرث “استيفن” ثروة كبيرة، وتشعر “ماجدولين” بالذنب، فتذهب لحبيبها السابق معلنة ندمها وتوبتها، غير أن كرامته تسمو فوق حبه، فيرفض توبتها، ولكنه يساعدها على تجاوز أزمتها المالية، ولم تُطق “ماجدولين” الحياة فتنتحر، ويدرك “استيفن” أن قلبه مازال نابضاً بحبها فيودع الحياة غير آسف، وكانت آخر وصاياه أن يُدفن بجوار حبيبته، وكأنه يقول للقدر: إن أبيت أن تجمعنا في الحياة بأجسادنا فها نحن مجتمعون بأرواحنا.
حقاً إنها رواية يعجز اللسان عن صياغة جملة مفيدة للتعبير عنها، رواية كان فيها الوفاء خيانة، والخيانة وفاء، فأسلوب المنفلوطي خرافي بديع يعشقه كل من يقرؤه، بالإضافة إلى أنها رواية ممتعة، والنهاية كانت مؤثرة للغاية، ومنصفة نوعاً ما، فماجدولين البساطة، والعشق العذري، والانبهار بالمدينة ومظاهرها، ما أدى بها إلى إغفال وعدها والغدر بحبيبها.
هذه الرواية من أجمل ما ترجم للأدب العربي، وخاصة بعد أن أضاف المنفلوطي لمسته الأدبية عليها لينتج مزيجاً رائعاً يتميز بالرومانسية الجميلة التي لا تمل من قراءتها، وتحب أن تتغلغل في أعماق الشخصيات، ولا جدال في ثراء الكاتب لغوياً وبيانياً، ففيها لمسات فنية ودرامية تعلقك لإعادة الرواية أكثر من مرة.

دانيا عبارة