لغة الروح.. الثنائي الموسيقي طارق صالحية ووسام الشاعر في دار الأسد باللاذقية

نسائم لغة الروح.. لغة العالم “الموسيقا” تُداعب جسد الذاكرة.. تدفع المستمع لترانيم الألحان، وأن يترجل عن جواد الريح، فيحاكي شموس البحر برغبة جامحة.. كان ذلك مساء الثلاثاء الماضي، حيث قدّم البيت العربي للموسيقا بالتعاون مع مديرية الثقافة في اللاذقية أمسية موسيقية آسرة للثنائي المبدع طارق صالحية (غيتار)، ووسام الشاعر (أكورديون)، وقد عوّد البيت العربي للموسيقا جمهور اللاذقية أن عملهم لم يقتصر يوماً على تعليم الموسيقا فقط، وإنما يسعى منذ تأسيسه “عاد 2003” لأن يكون مؤسسة فنية موسيقية تنشئ جيلاً جديداً متعلماً ومؤمناً بأهمية الموسيقا ودورها في تكوينه الوجداني والمعرفي.

يأتي اللحن مع انطلاقة الأمسية ساحراً آسراً على أوتار غيتار البارع طارق، وأكورديون المبدع وسام، فأشعر مع أنغامهما ومع كل مقطوعة بحالة جديدة من ظمأ روحي لشفاه الحياة، لسحر جمالها مع لحن شعبي أرجنتيني، ولزرقة بحرها وسمائها مع صولو مقطوعة (تانغو) لطارق، لدفء رمالها.. لغة صخورها.. زبد أمواجها مع صولو آخر (ارتجال شرقي) لوسام.. لعطر النسائم المعتقة في أنفاسي مع موسيقا يا محلا الفسحة التراثية اللاذقانية.. لحيوية الأطلال في أحلامي وصحوتي مع مقطوعة الأخوين رحباني.. إلى ما هنالك من مقطوعات لمؤلفين موسيقيين مبدعين كـ (شوبان، فيتور لمونتي، تورتي مورينغ، بلازولالا، وانيس وارطنيان.. إلخ) برعا بسحر في عزفها والتماهي مع أنغامها.

ومن دون سابق تفكير وكحال كل متأمل للموسيقا، سرحت مع الخيال مع مقطوعة (عشق) لمؤلفها وعازفها المبدع طارق صالحية، فرجعت بفعل موسيقاه إلى حنين الذاكرة البعيدة ، أيام تصوير مسلسل “رقصة الحبارى” وحضور الصديق القديم طارق بغيتاره إلى البيت الشامي الشهير “بيت نظام” ليعزف على الغيتار في أحد المشاهد الصديق الفنان فراس إبراهيم – حسب كتابتي لشخصية “البوهيميتي” الدرامية التي جسّدها- يومها كانت ابنتي المخرجة الحالية “رولا”مشاركة في المسلسل بشخصية الطفلة ابنة العزيزين (عباس النوري ووفاء موصلي)، وقد جلست إلى جانب الجد فنان الشعب (رفيق سبيعي رحمه الله) تستمع وتراقب قبل التصوير عزف طارق ومهاراته مع أوتار غيتاره، وكانت أيامها طالبة في المعهد العربي للموسيقا بدمشق تدرس آلة الكمان، غير  أنها تحولت وبسرعة إلى الحالة المأخوذة بعزف طارق، ومن يومها تركت الكمان وبصعوبة وافق مشكوراً الصديق القديم الأستاذ حسام بريمو مدير المعهد العربي آنذاك أن تنتقل إلى آلة الغيتار.. ذلك هو فعل الإبداع، وذلك كان فعل الموسيقا في الأمسية كعناق روحي مع موسيقا البحر.. وكمن نولد من رحم ملحه ثانية، تحفزنا موسيقا الثنائي (طارق ووسام) لأن يستفيق قلبنا الحبيس بين ضلوعنا، فنستعيد ألق ابتسامات من عناقيد وكروم، ثم نزركش آمالنا استعداداً لمواجهة الرياح والأنواء بكل أشكالها، فنقيم  لها مراسيم أخرى للحن الأجمل.

قد لا تكفي كلمة شكراً للبيت العربي للموسيقا لاختياره الثنائي المبدع، وقد لا تكفي عبارات الامتنان لفعل الموسيقا في الأمسية التي عرفت جمهور الساحل وعن قرب بالحضور الأخاذ لطارق صالحية، الحاصل على الإجازة في الموسيقا من المعهد العالي للموسيقا باختصاص الغيتار الكلاسيكي والإيقاع، وهو مدرّس في المعهد العالي، ومدرّس ورئيس لقسم الغيتار في معهد صلحي الوادي، وأكثر من ذلك فهو عازف أول مع العديد من الفرق والاوركسترات العربية والعالمية، وحائز على شهادة خبرة من أكاديمية سيبايوس لإعطائه محاضرة عن الموسيقا العربية والعالمية، كما قدم العديد من الأماسي في مختلف الدول العربية والعالمية: (أمريكا، اسبانيا، هولندا، فنلندا، الإمارات، المغرب.. إلخ).

أما المبدع وسام الشاعر فهو أول عازف اكورديون أكاديمي في سورية، يحمل إجازة من المعهد العالي للموسيقا بدمشق، مغني تينور درامتيك، مجاز بالتربية الموسيقية، درس الاكورديون على يد عازف الاكورديون العالمي (مان فريد لوبختر)، عازف الاكورديون الأول مع السيدة فيروز، وعازف مع الفرقة السيمفونية الوطنية، كما قدم العديد من الحفلات الموسيقية على مسرح دار الاوبرا بدمشق، والعديد من مسارح العالم، وهو مدرّس لآلة الاكورديون في المعهد العالي للموسيقا، ومؤسس وقائد اوركسترا اوغاريت لموسيقا الشرق.

تحية لعشاق “لغة العالم”، الجمهور النخبوي الحاضر بأهمية في دار الثقافة، مؤكداً بتفاعله الراقي أن الموسيقا أهم آلهات الفنون الجميلة، وأنها كانت ولاتزال قادرة في وطن الحب سورية على مواجهة أزمة الحرب والإجرام الظلامي التكفيري التآمري على بلدنا الحبيب، إنها غذاء الروح، والتي أعود لأدرك معها بعد تلك الأمسية أن ثمة أسئلة وأسئلة مجهولة الصدى، مبهمة الإجابة، كانت ولاتزال تحتل فضاء أكبر في مساحة شعوري الإنساني، وبعد صمت الألحان، وعزف الجمهور واقفاً لحن التصفيق للثنائي الموسيقي المبدع، أدركت أن قلبي الذي توقف قبل نحو شهرين وعاد للحياة تحت العلاج الطبي، كان بأمس الحاجة للمعالجة بلغة الروح (الموسيقا)، فمضيت أستمع إليه وهو يطالبني بالمحاولة أكثر فأكثر للعودة تدريجياً إلى عشق الحياة والبحر في مده وجزره، متسلقاً روح الكآبة، وفي احتجاج غير معلن أعترف أن موسيقا الأمسية، وتحليق الثنائي (طارق ووسام) في العزف أعاد رسم بعض ملامح نبض قلبي المتعب، فأدمع وبغبطة خلاصات من روحي، ثم دفعني لكتابة خربشات من وحي الأقدار المنقوشة على مرايا النفس.. أصوات من روحي المبتعدة عن النقد والتشريح والتحليل كعادتي في كتابة المقالة النقدية.. إنها معزوفة الخافق.. تكتمل بمبدعيها.. بألق دقات موسيقا البحر.. الحب.. ملح الحياة.

إلياس الحاج