دراساتصحيفة البعث

الوحدة العربية في مواجهة عبثية الانكماش القطري

قسم الدراسات

غني عن التوكيد أن النظام العربي الراهن ليس موحَّد الأهداف والأسلوب في التعاطي مع المشكلات العربية الراهنة كالوحدة العربية، والصراع العربي – الصهيوني ، والعدوان الغاشم على العراق ولبنان وليبيا وسورية واليمن، وأخيراً ضد أبناء شعبنا العربي الفلسطيني في غزة، حيث يتجلى عدم التماسك العربي نحو سياسة عربية موحدة بشكل واضح وفاضح، كما أن التكتلات الإقليمية لا تملك جهازاً واحداً يعبّر عن مجموعة الدول المكونة لكل تكتل، وما زالت الاختلافات قائمة بين الدول القطرية داخل كل تكتل، أي أن مجموعة الدول القطرية المتكتلة لم تبن الدولة القطرية الواحدة التي تضم تلك المجموعة ، وليس ما يشير إلى تحوّلها أو اندماجها في دولةٍ واحدةٍ في المدى القريب. وقد يكون من السابق لأوانه استكشاف عناصر الفشل والنجاح في مثل تلك التكتلات الإقليمية التي أملتها ظروف اقتصادية وسياسية معينة، لكن بالإمكان القول:إنها ليست دولة الوحدة القومية العربية المنشودة . وليس ما يؤكد أنها خطوة مدروسة على طريقها، وبالمقابل ليس من الحكمة اتخاذ موقف سلبي قاطع منها على غرار المواقف القومية المثالية السابقة وصولاً إلى نعتها بمختلف الصفات السيئة والمعيقة للوحدة القومية المنشودة. لقد أدركت الجماهير الشعبية العربية بحسها القومي السليم، أن الإعلان عن هذه التكتلات القطرية وما رافقه من خطاب قطري ضيِّق يلبس لباس الوحدة القومية ليس مقنعاً لا بل غير مفهوم في معظم جوانبه. من هنا كانت الدعوات التي دعاها السيد الرئيس بشار الأسد الأمة العربية للوقوف والتضامن الحقيقي مع الشعب العربي السوري والشعب اللبناني والشعب العراقي والشعب الفلسطيني، وأن يكون الموقف العربي جاداً في التصدي لكل المخططات التي تحاك ضد الأمة العربية .
كما قد تكون الظاهرة الأكثر لفتاً للنظر، فيما يتعلق بالخطاب العربي القومي، ميل هذا الخطاب إلى الانكماش والضمور بعد أن كان التضخم هو القانون الذي حكم إنتاجه وتطوره مدى العقدين التاليين مباشرة لمرحلة الاستقلالات العربية التي بدأت مع نهاية الحرب العالمية الثانية. فإذا كان في الإمكان الجزم بأن الهزيمة العربية الكبيرة في حزيران 1967 هي التي عكست، على نحو فج ومباغت، إيقاع إنتاج الخطاب العربي القومي (الإيديولوجي ) واستهلاكه معاً من التضخم إلى الضمور ، فإنه ليس لنا أن نتناسى أن هذه الظرفية العربية الخاصة لأفول الخطاب العربي ( الإيديولوجي ) تندرج هي نفسها في سياق تاريخي عالمي كرّس أزمة قطرية وإقليمية حادة انعكست بشكل أو بآخر على الخطاب العربي القومي، وتحديداً على بنية الخطاب الإيديولوجي، وعندما تتصلّب التمثلات التي سيّج بها الخطاب العربي القومي حركية الواقع، تبدأ عملية انهيار المعاني، لهذا تأخذ الدول المتبنية للفكر القومي العربي على عاتقها مهام ترميم الوعي، أي أنها تبدأ بمعالجة ما خرّبته الانحرافات العربية القطرية .
لقد كان الخطاب القومي العربي وما زال متميزاً في سورية ، فقد انتهج حزب البعث العربي الاشتراكي المبدأ القومي ونادى به ودافع عنه، وكان الخطاب السياسي القطري، في مرحلة التأسيس خاصة، يتكئ في معظم مفاهيمه الأساسية على الفكر السياسي القومي انطلاقاً من مقولة هامة ترى في التحرر من الاستعمار الخارجي خطوة أولى على طريق الوحدة القومية المرجوة.
لكن نحن في سورية عانينا ومازلنا نعاني من مواقف وسلوك الأخوة الذين دفعوا مليارات الدولارات من أجل إحراق وتدمير وتخريب كل مكونات الحياة في سورية بعد اصطفاف تلك الدول مع المشروع الصهيو-أمريكي. هذا لم يحدث في سورية فقط بل حدث في ليبيا ومصر واليمن والعراق . لقد تجلت هبة هذه الشعوب حين انتفضت صارخة في وجه الصهيونية والامبريالية العالمية رفضاً للاعتداءات الوحشية التي يقوم بها العدو الصهيوني ضد أبناء شعبنا العربي في لبنان والعراق وسورية واليمن وليبيا وفي غزة . وهنا يتم التأكيد بأن جل المظاهرات والمسيرات والاستنكارات ضد العدوان الصهيوني الغاشم على غزة كانت ضد الأنظمة التي لم تسير في الاتجاه الوطني والقومي وارتهنت للخارج بدواعي المصلحة القطرية الضيقة وتحديداً تلك الدول التي رهنت نفسها للإدارة الأمريكية والكيان الصهيوني وتمارس التطبيع العلني وتدعم صفقة القرن .
من هنا كان الموقف القومي العربي الأصيل للسيد الرئيس بشار الأسد عندما تحدث عن دماء الأطفال والأبرياء التي تسيل على أرض غزة والتي تحرك وتؤجج المشاعر الإنسانية، وأنه على كل عربي حر أن يشعر بما يجري لهؤلاء الأبرياء العزّل ويقف معهم موقف المسؤول ، يقول سيادة الرئيس بشار الأسد : ” إذا كان من البديهي ومن الواجب أن نحمل المشاعر نفسها فالحري بنا كمسؤولين أن نكون في المقدمة وذلك من خلال تحويل هذه المشاعر إلى عمل واتخاذ قرارات تنتج أفعالاً” .
إن اختلاف النظم السياسية القائمة في الأقطار العربية لا يزعج القيادات المسيطرة في طرحها للقطرية التكاملية طالما أن كل دولة ستحافظ في المرحلة الراهنة على الأقل على استقلالها وقوانينها وأنظمتها. أي أن التكتلات القطرية تستقي تجربتها من جامعة الدول العربية بالدرجة الأولى، هذه الجامعة التي تشهد انهياراً لا مثيل له والتي تمت تبعيتها للغرب المتصهين بشكلٍ سري، حيث يبدو مصير الجامعة العربية في ظل هذه التكتلات المعلنة ومشاريعها هشاً وبعيداً كل البعد عن الهدف المرسوم لها عربياً.