ثقافةصحيفة البعث

أدب الأطفال

محمد راتب الحلاق
النص الأدبي الموجه للطفل ليس نصاً مسطحاً أو ضحلاً، يقدم المعاني والقيم والحقائق بأسلوب خطابي مباشر كما فهم ذلك بعضهم، حين ظنوا أن مجرد صف الكلام وفق نظام معين، وحشوه بالأوامر والنواهي التي تدور حول شؤون الأسرة والمدرسة والبيئة التي يعيش فيها الطفل يجعل من كلامهم أدب أطفال! والشواهد على هذا النمط من النصوص الرديئة أكثر من الهم على القلب.‏
النص الجيد، فيما أزعم، هو النص الذي يذكي خيال الطفل، ويقدم له القيم والحقائق في سياق فني جميل، مغلف بقدر محسوب بعناية من الغموض الشفاف، الذي يتناسب مع مستواه العمري والعقلي والمعرفي واللغوي، مما يدفعه إلى المضي قدماً إلى ما وراء بنائه الظاهر، وإلى ما وراء المعاني القريبة للكلمات.. فقد بينت دراسات عديدة في علم النفس أن الشعور بجمال النص والاستمتاع به يتألق ويتوهج مع الأعمال الأدبية والفنية البعيدة عن الوضوح الساذج والمعاني الخطابية المباشرة. ‏ والكتابة للأطفال ليست سهلة كما يتوهم كثيرون، إذ على من يتصدى لهذا النمط من الكتابة، إلى جانب الموهبة وحب الأطفال، أن يكون واسع الثقافة، مطلعاً على تراث أمته وتراث الشعوب الأخرى، وأن يكون متمكناً من المبادئ العامة للتربية، ومن معطيات علم النفس عموماً، وعلم نفس الطفل خصوصاً، ولاسيما علم النفس النمائي، وبكل ما يتعلق بالنمو العقلي واللغوي والجسدي والاجتماعي والأخلاقي….، مما يساعد في تقديم نصوص تتناسب مع قدرات الطفل العقلية والفيزيولوجية والمعرفية، وتتدرج مع ما يحرزه من نجاحات في مهارة تلقي النصوص، ولتجنيب الطفل الملل والرتابة لابد من تقديم نصوص ذات مضامين وتقنيات أكثر تعقيداً وتركيباً باستمرار، لنجلب له المزيد من المتعة: متعة الإنجاز وتحقيق النجاحات، ومتعة المشاركة في الإبداع، ومتعة التخيل أنه المكتشف الأول للنص ومعانيه، من دون أن نسمح لليأس أن يتسلل إلى أعماقنا، نتيجة التقدم الذي قد يكون بطيئاً في البداية.
ومهارة تلقي النصوص الأدبية لا تعني حفظها وترديدها بصورة جيدة من قبل الطفل، وإنما تعني قبل ذلك قدرة الطفل على تذوق مواطن الجمال فيها، وقدرته على تقييمها وإعطاء رأيه الشخصي فيها، مما يساعد في تنمية الحس الجمالي والبديعي عنده، وهذا لن يتحقق إلاّ إذا كانت النصوص المقدمة للطفل مناسبة لنموه وذات مستوى فني راق.
ولتعميق قدرة الطفل على التذوق لابد من إدارة حوارات معه حول النص تتصف بالديمقراطية والتلقائية، للارتقاء باستجاباته وعقلنتها. ومما يساعد في نجاح تلك الحوارات ويزيد من فاعليتها احترام أسئلة الطفل، بل تحريضه على التساؤل، وتقدير إجاباته والتعامل معها باهتمام، مهما بدت غريبة أو غير منطقية. ومما يساعد في نجاح تلك الحوارات (أيضاً) احترام خيال الطفل وإثارته بكل الأساليب الممكنة، واختيار نصوص مناسبة لتكون موضوعاً للمناقشة، وتشجيع الطفل على تقليب الأمور على وجوهها الممكنة، وذلك بالسؤال: وماذا بعد؟ عقب كل إجابة يقدمها، مما يعوده على القراءة الذكية والواعية، التي لا تقتنع بالمعنى الظاهر والقريب، بل تحاول أن تبحث عن المعاني الممكنة الأخرى التي تقبع بين السطور، أو التي حاول منتج النص أن يكبتها عبر الصنعة الفنية.
وتعد جلسات (عصف الدماغ وقدح زناد الفكر) طريقة نموذجية لتدريب الطفل على التعامل مع النصوص الأدبية وعلى حسن تدبرها.