الصفحة الاخيرةصحيفة البعث

أي ثقافة.. نريد؟!

حسن حميد

أظنُّ، أن الجميع باتوا يعرفون أن تمظهرات النهضة العربية بعد الكابوس العثماني الذي ربخ على صدر الأمة العربية قروناً طوالاً بما يحمله من حقد وظلموت وأنفاس كريهة وتجهيل، بدأت مع بدايات القرن التاسع عشر، من خلال محمد علي باشا والي مصر الذي رأى اقتناعاً أن السبيل إلى النهضة المصرية هو السبيل الذي انتهجته أوروبا، عبر الثورات المتعددة، والمناداة بالروح القومية لكل بلد، وعرق، وجغرافية على حدة، فأرسل الطلبة والأساتذة للاستفادة من الطرق والوسائل والمناهج التي نهجتها أوروبا طلباً للنهضة والتقدم، وقد شكل ذلك الأمر حراكاً مهماً في مصر، وقد تجلى ما يماثله فكرياً في بلاد الشام، ولا سيما المناداة بعودة الروح العربية، والخلاص من المستعمر العثماني الغاصب الناهب المحتل.

ثم بعد ذلك تتالت الدعوات المنادية بـ (الثقافة المتوسطية) نسبة للبحر الأبيض المتوسط، أي الاقتداء، أو الالتحاق بأوروبا بوصفها مركزاً حضارياً، والتي جاءت من المتعلمين العرب الذين درسوا في أوروبا، فتصاعدت دعوات عجيبة منها القطعية مع التراث والتاريخ، والشك بكل معطيات الأزمنة القديمة وإعادة مراجعتها وفق (مبدأ الشك) فالأهمية التي كان عليها الشعر ما عادت هي الأهمية في هذه العصور التي سموها بالجديدة والحديثة، والخطابة ما عادت ذات أهمية لأن أدوارها تغيّرت، والأنساب، والعادات، والتقاليد، والتصورات، والأعراف كلها باتت حديثاً عن الماضي وعليها أن تظل في الماضي، ولذلك تعالت أصوات المنادين بالعصرنة، والحداثة، من أجل غربلة عادات المجتمع العربي وتقاليده والخلاص منها لأنها هي سبب هذا الموات تحت ربقة الاحتلال العثماني.

كل هذه الدعوات كانت مهمة، وذات أنفاس طيبة وغيرة وطنية وقومية جلية، ولكنها افتقدت إلى المنهج، والطريقة، وأسلوب التنفيذ لأن اختلاطاً عجيباً عاشته الذات العربية المفكرة الأمر الذي جعل خطاها وتوجهاتها تصاب بمرض خطير جداً هو الحيرة تجاه ما تراه من تقدم أوروبي متسارع ومدهش في آن، مثلما جعلها تصاب بمرض خطير جداً هو فقدان الثقة بالذات، والقول إن الذهنية العربية غير قادرة بطبيعتها على التطوّر والتقدّم أو الأخذ بأسباب التقدّم والتطوّر! وهذا قول متسرّع وجاهل.

وهذان المرضان الموجعان، ما زالا مستمرين حتى يومنا هذا، فالحيرة من جهة وفقدان الثقة بالنفس من جهة أخرى ما زالا يتحكّمان بهذا التخبّط الذي نشهده على أكثر من صعيد وجهة، ولعل النظر من زاوية الثقافة يجلو لنا هذه الحيرة وذلك الفقدان للثقة بالنفس، لأن الحديث الطيب كلّه موجه نحو الثقافة الغربية (أي أوروبا والولايات المتحدة الأمريكية) من الحديث عن النصوص الإبداعية، إلى الأفكار النقدية، إلى المدارس الفنية، وهذا ما جعل الثقافة العربية تابعة أو ملحقة بالثقافة الغربية، على الرغم من بعض الجهود الكبيرة التي حاولت تبديد هذه الحيرة، وإعادة الثقة للنفس العربية، لكن للأسف الشديد يتزايد عدد المشككين بالثقافة العربية كلاً، مثلما يتزايد عدد المشككين في جوهر الإبداع الذي تمتلكه الذات العربية أصلاً، وهذا يحتاج إلى وقفة جادة لإعادة تقعيد الثقافة العربية، وبيان ما فيها من جماليات وإبداع، ولابدّ من الانتباه إلى ما لدينا من إبداع وثقافة وفكر قبل الانتباه إلى ما عند الآخر، لأن نقطة الانطلاق الأساسية هي الثقة بالنفس، والنجاحات العظيمة لا تأتي إلا بهذه الثقة، ولعل في حياة النحل، من حيث البناء والعطاء، الدرس الأوفى، فالنحلة الواحدة لا تفكر أنها صاحبة جهد وضيع وصغير، وإنما تفكر بالمضايفة التي ستأتي بها إلى ما سيأتي به مجتمع خلية النحل كله، أما البقاء على التصفيق للثقافة الغربية وإبداعاتها فهو لا يصنع الثقافة العربية التي نحلم بها، ولا الثقافة التي نسعى إليها.

Hasanhamid55@yahoo.com