مجلة البعث الأسبوعية

أزمات أوروبا أكثر من أن تحصى.. وأزمة الهوية في صدارتها!

“البعث الأسبوعية” ــ عناية ناصر

بعد نهاية الحرب الباردة، نصبت الولايات المتحدة نفسها لاعباً عالمياً وحيداً. وإلى جانب الولايات المتحدة، وسع الناتو قوته أيضاً، على الرغم من أنه كان عليه أن يضع لنفسه أهدافاً جديدة بعد سقوط الاتحاد السوفيتي.

على مر السنين، توسع الاتحاد الأوروبي، أيضاً، كتحالف إضافي للدول الأوروبية، وقدم توسع الاتحاد إلى أوروبا الشرقية والبلقان فرصاً جديدة للدول الأوروبية. في العقدين الأولين بعد انتهاء الحرب الباردة، كان لدى الدول الأعضاء فرصة لتكريس أوروبا لاعباً عالمياً مستقلاً عن الولايات المتحدة، لكن أزمات عديدة منعت الاتحاد من تكريس نفسه في السياسة العالمية.

يواجه الاتحاد الأوروبي العديد من المشاكل المختلفة في هذه الأيام، بعض هذه المشاكل متأصل وذو طبيعة هيكلية، والبعض الآخر ذو طبيعة خارجية، ويشكل تحديات كبيرة لدول الاتحاد، وخاصة في مسائل الوحدة والتضامن. وتنتج صعوبات حلها بدورها من عوامل هيكلية، لكن على الاتحاد الأوروبي أن يتصدى لجميع التحديات، في نهاية المطاف، إذا أراد أن يثبت نفسه كلاعب عالمي، أو حتى أن يستمر في الوجود كاتحاد.

إذا نظرنا إلى تطورات السنوات الأخيرة، يمكن ملاحظة أزمات مختلفة كان على الاتحاد أن يتعامل معها. ويمكن الإشارة إلى أزمة الهوية كإحدى الأزمات الأولى والأساسية للاتحاد، وهذه أزمة أساسية لأنها مرتبطة بالعديد من أزمات الاتحاد الأخرى. فقد كان الاتحاد الأوروبي في الأصل مجرد اتحاد اقتصادي، واتخذ شكله الحالي بعد توقيع معاهدة ماستريخت في عام 1992، وتنفيذها في عام 1993. وكانت هذه المعاهدة أيضاً هي التي أرست ما يسمى بـ “القيم الأوروبية”، وأدت إلى ظهور مصطلح “الهوية الأوروبية”. يعرّف الاتحاد الأوروبي الحرية والديمقراطية وسيادة القانون وحقوق الإنسان والحقوق المدنية الأساسية على أنها قيم أوروبية أساسية. وقد وافق الاتحاد الأوروبي، الذي أصبح الآن اتحاداً لدول أعضاء وثقافات مختلفة، أن يكون مجتمعاً متعدد الثقافات.

يعتمد الاتحاد الأوروبي بسبب التغيرات الديموغرافية والاقتصادية على الهجرة، لذلك استمرت أوروبا تستقبل المهاجرين لفترة طويلة. على الرغم من أن الاتحاد يؤكد على العالمية والتعددية الثقافية، إلا أنه يواجه صعوبات في إدارة “الآخر”. الشعبوية آخذة في الارتفاع في العالم، ويمكن ملاحظة ذلك في العديد من دول العالم. وحتى القيم الأوروبية لم تستطع حماية الاتحاد من هذا التوجه العالمي، فمع صعود الهجرة والطابع متعدد الثقافات للمجتمع الأوروبي، انجر الاتحاد إلى أزمة هوية، واستخدم الشعبويون اليمينيون الأوروبيون العنصرية المعادية للمسلمين أو العنصرية ضد اللاجئين أو العنصرية ضد الأجانب بشكل عام لتحقيق مكاسب سياسية.

أدت الأزمات الإضافية إلى تكثيف هذا التطور، وكان له تأثير هيكلي. إحدى هذه الأزمات هي الأزمة الاقتصادية لعام 2008، والتي وضعت تضامن الاتحاد الأوروبي على المحك للمرة الأولى، وأظهرت أن السياسيين الأوروبيين لا يترددون في إلقاء اللوم على الأجانب بخصوص وضع الاقتصاد. في البلدان الأكثر تضرراً من هذه الأزمة، مثل اليونان وإيطاليا، كانت هناك زيادة في التصريحات المعادية للأجانب داخل السياسيين، واكتسبت الأحزاب الشعبوية اليمينية شعبية.

تم دفع هذا إلى المستوى التالي مع أزمة اللاجئين في عام 2015. ومنذ ذلك الحين، وصلت كراهية الأجانب إلى ذروتها في البلدان الأوروبية الأخرى أيضاً. أصبحت الشعارات الشعبوية اليمينية مقبولة اجتماعيا وأصبحت العنصرية البنيوية داخل دول الاتحاد الأوروبي أكثر وضوحا. وهكذا، يمكننا أن نلاحظ صعود الأحزاب القومية اليمينية في دول الاتحاد الأوروبي، من بين آخرين في ألمانيا وفرنسا والنمسا وإيطاليا. نتيجة لذلك، برزت الأفكار القومية إلى المقدمة ولم تعد القيم الأوروبية في المقدمة. يعتبر خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي أيضاً نتيجة لهذا التطور ويمكن أن يكون مؤشراً على الاتجاه الذي يتحرك فيه الاتحاد.

وتؤكد الأحداث الجارية والمتعلقة بجائحة كورونا هذا التطور أيضاً، حيث تخوض بعض دول الاتحاد الأوروبي معركة حول المعدات الطبية، وبدلاً من العمل معاً لإيجاد حلول، حظرت دول مثل فرنسا وألمانيا أو قيدت تصدير المعدات الطبية إلى دول الاتحاد الأوروبي الأخرى، أدى ذلك إلى زيادة انعدام الثقة داخل الاتحاد الأوروبي.

أبرزت الأزمة الاقتصادية في عام 2008 وأزمة اللاجئين في عام 2015 الفجوة الاقتصادية داخل الاتحاد الأوروبي. في حين أن دولاً مثل ألمانيا وهولندا تستفيد اقتصادياً من الاتحاد وتتزايد، تواجه دول جنوب أوروبا مشاكل اقتصادية. ولا تزال اليونان وإسبانيا وإيطاليا تكافح عواقب الأزمة الاقتصادية لعام 2008، كما تواجه فرنسا أيضاً مشاكل اقتصادية خطيرة، فالبطالة في هذه البلدان هي الأعلى، وفي بعض الحالات، أعلى بكثير من متوسط ​​الاتحاد الأوروبي. في كل من الاتحاد الأوروبي وداخل دول الاتحاد الأوروبي نفسها، نرى أن هناك أزمة في توزيع الدخل. تستفيد دول الشمال اقتصادياً من الاتحاد الأوروبي. من ناحية أخرى، تحصل الدول الجنوبية على حصة صغيرة من ثروة الاتحاد الأوروبي.

 

أخيراً، يواجه الاتحاد الأوروبي أيضاً أزمة قيادة، حيث يمكن ملاحظة أن مختلف الدول الأعضاء في الاتحاد الأوروبي في تنافس مستمر مع بعضها البعض، ورغم كونها جزءاً في نفس الاتحاد، فإن الدول تسعى وراء المصالح الوطنية في السياسة الدولية. يمكن ملاحظة ذلك في ليبيا، حيث توجد سياسات متباينة لفرنسا وإيطاليا وتحاول ألمانيا الحفاظ على حيادها والعمل كوسيط. كما لوحظ عجز الاتحاد الأوروبي في الحرب السورية، نظراً لأن الدول الأعضاء المختلفة سعت إلى حلول مختلفة، لم يكن الاتحاد الأوروبي قادراً على التصرف على الرغم من تأثر القارة الأوروبية بشكل مباشر بالأزمة السورية من خلال موجات اللاجئين والهجمات الإرهابية. في حين أن دولاً مثل تركيا والولايات المتحدة الأمريكية وروسيا كانت قادرة على التحرك، ذلك أن الافتقار إلى قيادة سياسية منع الاتحاد الأوروبي من تطوير الاستراتيجيات وتنفيذها.