مجلة البعث الأسبوعية

مع الاندفاعة العسكرية الحوثية في مأرب.. مقترحات “السلام” الأمريكية السعودية قمامة معادة!! انتقال المعركة إلى داخل المملكة وتراجع العائدات النفطية قد يفسران انعطافة بن سلمان وبايدن!!

“البعث الأسبوعية” ــ تقرير العدد

مظاهرات حاشدة عمت اليمن، يوم الجمعة الفائت، 26 آذار، في الذكرى السادسة لحملة القصف السعودي المدعومة من الولايات المتحدة. خرج مئات الآلاف إلى شوارع العاصمة صنعاء، بالقرب من المطار الدولي المحاصر، وفي الحديدة، أكبر وأهم ميناء بحري في البلاد. احتشد المتظاهرون في أكثر من عشرين ساحة في المحافظات الشمالية، حاملين الأعلام اليمنية ولافتات الصمود والوعد بتحرير البلاد كاملة من السيطرة السعودية، موجهين رسالة واحدة: “ست سنوات من العدوان.. جاهزون للسنة السابعة.. سننتصر”. وقال نايف حيدان القيادي في الحزب الاشتراكي اليمني وعضو مجلس الشورى اليمني: “نحن هنا لتوجيه رسالة إلى كل من الولايات المتحدة والسعودية بأننا مستعدون للمزيد من التضحيات”. وأضاف أن “أي مبادرة سلام يجب أن تنص على إنهاء دائم للحرب، ورفع الحصار بشكل كامل، وأن تتضمن برنامج إعادة إعمار مفصلاً، والتعويض لليمنيين”.

 

.. يتحدثون الآن عن السلام!!

على مدى ست سنوات، قصفت مملكة آل سعود والإمارات المتحدة، وهما من أغنى دول العالم، بلا هوادة، أفقر دولة في الشرق الأوسط، بمساعدة حاسمة من ثلاث إدارات أمريكية متتالية. ولمدة 2160 يوماً، شنت القوات الجوية السعودية والإماراتية، بمساعدة أمريكية، ما يقرب من 600 ألف غارة على اليمن. استهدف القصف منازل المدنيين والمدارس والمستشفيات والطرق والجنازات والمرافق الغذائية والمصانع والمساجد والمياه والمضخات والصرف الصحي والأسواق ومخيمات اللاجئين والمدن التاريخية وقوارب الصيد ومحطات الوقود وحافلات مدرسية مليئة بالأطفال ومخيمات البدو، ما يجعل أي إعادة إعمار محتملة طويلة ومكلفة للغاية.

ولا يزال القصف مستمراً حتى مع بدء ظهور مبادرات سلام جديدة. يوم الأحد، 21 آذار، دمرت غارات جوية سعودية متتالية مزرعة دواجن في محافظة عمران. كان الهجوم فظيعاً خاصة وأن اليمن يعاني إحدى أشد المجاعات خطورة في التاريخ الحديث. والواقع، تواجه البلاد أزمة إنسانية واقتصادية وسياسية لم تشهدها منذ عقود. ووفقاً للأمم المتحدة، يعيش ما يقرب من 16 مليون يمني تحت خط المجاعة، ويعاني 2.5 مليون طفل من سوء التغذية. ويواجه الآلاف من موظفي الدولة الجوع حيث لم يتم دفع رواتبهم لسنوات بعد أن سيطر التحالف الذي تقوده السعودية على البنك المركزي للبلاد.

 

دمار لا رحمة فيه

مع دخول الحرب عامها السابع، يواجه اليمنيون المنهكون من الحرب آفاقاً قاتمة. وتعد الكوليرا، الأسرع نمواً على الإطلاق، وأنفلونزا الخنازير وداء الكلب والدفتيريا والحصبة من بين التهديدات البيولوجية التي التي تواجههم. وفي الوقت نفسه، يموت المئات بسبب كورونا كل يوم وسط منظومة صحية منهارة ومدمّرة. العديد من هذه الأمراض والأزمات ليس طبيعياً، فقد تسببت به السعودية بشكل متعمد. ووفقاً لتقرير صادر عن وزارة الصحة اليمنية يوم الثلاثاء الماضي، فقد دمر التحالف المدعوم من الولايات المتحدة – كلياً أو جزئياً – ما لا يقل عن 523 منشأة صحية، وقصف ما لا يقل عن 100 سيارة إسعاف. وبعد سنوات من فرض السعودية حصارها على الموانئ اليمنية، ووقف الإمدادات الضرورية للعيش، لا يزال اليمنيون يعانون من نقص الغذاء والوقود والأدوية. ميناء الحديدة، وهو نقطة الدخول الرئيسية لمعظم واردات اليمن الغذائية، يخضع لحصار سعودي صارم، والمساعدات الإنسانية ممنوعة من الوصول إلى الميناء. كما تم إغلاق مطار صنعاء الدولي، الذي تعرض لقصف شديد من سلاح الجو السعودي منذ بدء الحرب تقريباً، ما ترك آلاف المرضى يموتون قبل الأوان لأنهم لم يتمكنوا من السفر لتلقي العلاج.

 

محاولة لوقف الهزائم

وعلى الرغم من هجومها المتوحش، وأسلحتها الغربية الفتاكة، ومئات مليارات الدولارات التي أهدرت في هذه الحرب، لم تستطع السعودية سحق إرادة الشعب اليمني الذي يواصل الكفاح من أجل استقلاله وسيادته. في نهاية العام 2015، وعد ولي العهد السعودي، الأمير محمد بن سلمان، بأن كل شيء سينتهي في غضون أسابيع قليلة، وأن أنصار الله سوف يستسلمون بسرعة. واليوم، بعد ست سنوات من الحرب، لا يبدو بن سلمان قادراً على هزيمة الحوثيين. بدلاً من ذلك، لبث الحوثيون صامدين في مقاومتهم وازدادوا قوة، ما أحدث الكثير من الذعر في المملكة الوهابية. وفي وقت يندفع اليمنيون في هجوم أخير لاستعادة مدينة مأرب الاستراتيجية، وسط جهود أمريكية فاشلة لحماية الحليف السعودي من الصواريخ الباليستية والطائرات بدون طيار الحوثية، قدمت الرياض “مبادرة سلام” في محاولة منها لوقف موجة الهزائم العسكرية التي لحقت بتحالفها، وللخلاص من المستنقع الذي أوجدته لنفسها في اليمن. ومع ذلك، فشلت هذه المبادرة في معالجة أو تخفيف المحنة الإنسانية لليمنيين، أو إنهاء الحرب، أو حتى رفع الحصار.

 

 نفايات يعاد تدويرها

في 12 آذار، أعلن المبعوث الأمريكي الخاص لليمن، تيم ليندركينغ، مبادرة لإنهاء الحرب خلال ندوة عبر الإنترنت مع مركز أبحاث “اتلانتيك كاونسيل”. والخطة أساساً نسخة معاد تدويرها من اقتراح سابق قدمه بن سلمان وإدارة ترامب قبل عام واحد في سلطنة عمان، وأطلق عليه اسم “الإعلان المشترك”. ويحتوي على مصفوفة من المبادئ والشروط السعودية الهادفة إلى استسلام الجيش اليمني والحوثيين وحلفائهم مقابل إنهاء الحرب. ولا تقدم مبادرة ليندركينغ أية ضمانات بأن التحالف سيتخذ أي إجراءات لرفع الحصار وإنهاء أسوأ أزمة إنسانية في العالم.

في 22 آذار، أعلنت السعودية “مبادرتها لوقف إطلاق النار” وإنهاء الحرب. وكشف وزير الخارجية السعودي فيصل بن فرحان عن المبادرة التي ستشمل وقفا لإطلاق النار على مستوى البلاد تحت إشراف الأمم المتحدة وإعادة فتح جزئي لمطار صنعاء الدولي إلى وجهات معينة؛ كما تضمنت خطة لتقاسم الإيرادات من شأنها أن تضمن للحكومة السعودية الوصول إلى جزء من الثروة الناتجة عن مصبات النفط والغاز اليمنية في مأرب.

 

رفض حوثي

وقد رفضت صنعاء كلتا المبادرتين، لأنهما لا تهدفان إلى تحقيق السلام، بل إلى تحقيق الأهداف السياسية السعودية والأمريكية في مواجهة فشل عسكري وشيك ونهائي بعد ست سنوات من الحرب المكلفة. والمسألة – وفقاً لمسؤولين في صنعاء – تتعلق أيضاً بحفظ ماء الوجه وتقديم خطة لا يمكن الدفاع عنها، بحيث عندما يتم رفضها بشكل حتمي، سينقلب تيار الرأي العام لصالح التحالف الذي تقوده السعودية.

رفض عبد الملك الحوثي، زعيم جماعة الحوثيين، في خطاب حي متلفز، في الذكرى السادسة للحرب، مبادرات واشنطن والرياض، موضحا أن الأمريكيين والسعوديين وبعض الدول حاولوا “إقناعنا بمقايضة الملف الإنساني بمواقف عسكرية وسياسية”، وقال إن الحصول على المنتجات النفطية والغذاء والمواد الطبية والأساسية حق إنساني وقانوني لا يمكن مقايضته في ابتزاز عسكري وسياسي”.

وترى قيادة الحوثيين أن سياسات إدارة بايدن ليست بعيدة عن سياسات سلفه ترامب، فهي تتبع سياسات الرئيس السابق نفسها. وقال المتحدث باسم أنصار الله محمد عبد السلام أن الخطة الأمريكية لا تقدم أي جديد، وقد “وضعت شروطا لفتح ميناء الحديدة ومطار صنعاء الدولي، وهي شروط غير مقبولة”.

 

لا تراجع ولا استسلام

الحوثيون – الذين تمكنوا خلال سنوات من الصمود والمثابرة والإصرار، وسط واحدة من أعنف الحروب ضد بعض أقوى القوات العسكرية في العالم، ليس لديهم حافز كبير لقبول عرض الرياض، ويرون أن انتهاء الصراع يجب أن يأتي على شكل إعلان وقف فوري لإطلاق النار، وخروج جميع القوات الأجنبية من البلاد، ورفع الحصار الجوي والبحري كشرط مسبق لأي صفقة. وقال محمد علي الحوثي: “كان ينبغي عليهم إظهار جديتهم في إحلال السلام بالسماح للغذاء والوقود بالرسو في ميناء الحديدة بدلاً من تقديم مقترحات”.

وقد أثبت أكثر من ألفي يوم متتالية من الحرب أن السعودية ليست مستعدة لإحلال السلام؛ وباستثناء وقف إطلاق النار الهش في الحديدة والإفراج عن عدد قليل من السجناء، تصل المفاوضات بين الجانبين عموماً إلى طريق مسدود، حيث يبحث بن سلمان عن استسلام كامل ولا شيء آخر. فشلت مفاوضات عديدة بين السعودية واليمن، بما في ذلك محادثات السلام التي توسطت فيها الأمم المتحدة في سويسرا، عام 2018، ومن غير المرجح أن يتراجع اليمنيون أو يستسلموا. ولا يُظهر الهجوم لاستعادة مأرب الغنية بالنفط واجتياح المناطق التي لا تزال تحت السيطرة السعودية أي علامات على التباطؤ، ووفقاً لمسؤولين عسكريين رفيعي المستوى، فإن محافظة شبوة الغنية بالغاز التي تسيطر عليها السعودية ستكون التالية. علاوة على ذلك، تستمر الهجمات الصاروخية الباليستية الانتقامية وهجمات الطائرات بدون طيار على الأهداف السعودية.

 

مخاطر الهزيمة

لقد كانت التطورات العسكرية الأخيرة في مأرب هي التي أجبرت مملكة آل سعود على عرض اتفاق وقف إطلاق النار، فقد جاء العرض بعد أن سيطر أنصار الله على جبل هيلان، ما يهدد خط الدفاع الأول لقوات التحالف السعودي ويتسبب في اضطراب أسعار الطاقة العالمية.

وقد يعني سقوط مأرب سيطرة الحوثيين على أحد مراكز الإنتاج الرئيسية للغاز الطبيعي في اليمن – وهو مركز يمد البلاد بأكملها – وبالنظر إلى أن الحوثيين يسيطرون بالفعل على معظم المراكز الحضرية في اليمن، فمن المرجح أن يؤدي الاستيلاء على مأرب إلى ميل الزخم بشكل لا رجعة فيه لصالحهم.

وقد لجأ اليمنيون من جهتهم إلى استهداف التحالف السعودي في ساحته الخلفية، على أمل أن نقل المعركة إلى داخل المملكة، وتعرض مطار أبها، الأربعاء الماضي، لهجوم عدد من الطائرات المسيرة، ويوم الجمعة، أصيبت منشأة تابعة لشركة النفط العملاقة أرامكو في العاصمة الرياض، بست طائرات مسيرة، ما ألحق أضرارا بها. كما حققت الصواريخ الحوثية نجاحاً متزايداً في ضرب البنية التحتية النفطية والمطارات والقواعد العسكرية السعودية، ما ترك الأراضي المملكة عرضة للقصف اليومي لأول مرة منذ أن أقام آل سعود دولتهم.

والأكثر صعوبة محاولة حماية الصناعة العسكرية الأمريكية من كارثة مذهلة، فخلال الأشهر الأخيرة له في منصبه، أعطى الرئيس ترامب (السابق) للشركات الأمريكية، مثل “لوكهيد مارتن” و”ريبر” المصنعة للطائرات بدون طيار، الفرصة لجني المليارات من الأرباح من خلال صفقة أسلحة مثيرة للجدل بقيمة 23 مليار دولار مع الإمارات، وهي صفقة الآن “قيد المراجعة” من قبل إدارة بايدن.

ونظراً لأن صناعة الأسلحة الأمريكية تقود موجة من المبيعات القياسية للنظام السعودي، فإن التوقيف المؤقت لأكبر اقتصاد حرب على هذا الكوكب، جاء بمثابة استراتيجية سياسية، ولم يتجاوز حدود رسالة سياسية بعث بها بايدن لإحراج الحوثيين وإنقاذ حليفته السعودية.

 

لوبيات السلاح والحرب الجديدة

والحقيقة أن هناك معطيات كثيرة تشير إلى أن خطوات بايدن المزعومة نحو السلام مجرد محاولة لحفظ ماء الوجه حول ما يبدو وكأنه هزيمة أخرى في الحرب طويلة الأمد التي ترعاها الولايات المتحدة على الإرهاب، فقرار بايدن بشطب أنصار الله من قائمة الإرهاب مع الحفاظ العلني على الدعم المستمر لـ “الاحتياجات الأمنية” السعودية يمكن أن يكون إشارة إلى أن واشنطن اعترفت ضمنياً بأن حربها بالوكالة في اليمن لا تؤتي ثمارها المرجوة. وخلال الأيام الماضية، مع قرب الاستعدادات للهجوم الكبير على مأرب، أعلنت كل من فرنسا وألمانيا وإيطاليا والمملكة المتحدة والولايات المتحدة الأمريكية، في بيان مشترك، إدانتها للهجوم الحوثي على مأرب و”التصعيد الكبير للهجمات التي يشنها الحوثيون ضد السعودية”.

ومنذ كانون الأول 2020، عندما كان العالم واثقاً من أن بايدن سيكون الرئيس القادم للولايات المتحدة، أضافت المملكة السعودية عدداً قليلاً من منظمات الضغط الجديدة إلى جدول أعطياتها، وتم توقيع عقود جديدة مع شركات استشارية لتعبئة الرأي العام وخدمات العلاقات العامة للتأثير على الكونغرس و”إعلام الجمهور والمسؤولين الحكوميين ووسائل الإعلام بأهمية تعزيز العلاقات القوية بين الولايات المتحدة والمملكة”؛ وكان لوبي تجارة الأسلحة في واشنطن حقق انتصارات كبيرة من الإدارة السابقة، وهناك ثلاث من أكبر شركات الضغط تتناوب على تمثيل “ريثيون” و”جنرال دايناميك” و”نورثرون غرومان”، أكبر وكلاء صناعات أنظمة التسلح للسعودية والإمارات، لدفع التشريعات وتأمين العقود الحكومية التي يطلبها عملاؤهم.. وكل ذلك مهدد اليوم بالتبخرّ!!

ولربما يكون ذلك السبب الأكثر بساطة لتعديل الموقف الأمريكي، فالمشترون السعوديون قد لا يمكنهم دفع ثمن البضائع، وعلى الرغم من كل البهجة والثروات الخيالية المنسوبة إلى العائلة المالكة السعودية، فإن ثروتها كلها، حرفياً، في سلة واحدة. وإذا هبط سعر النفط، انخفضت كذلك قدرة الأمراء السعوديين على إبرام صفقات الأسلحة. والحقيقة أن مثل هذه الصفقات تميل للتراجع عندما ترتبط بموارد مثل النفط المستخرج من بلد أجنبي يعج بالجماعات المسلحة العازمة على تأكيد سيادتها.

ومع ذلك، سيكون من السذاجة الاعتقاد بأن أكبر اقتصاد حرب في العالم سوف يتراجع ويترك عشرات المليارات من الدولارات على الطاولة. وإذا لم تستطع السعودية أو شركاؤها في التحالف توفير الأموال، فإن المجمع الصناعي العسكري لن يخجل من فرصة جلب الآخرين إلى طاولة المفاوضات وتوسيع الحرب للقيام بذلك.