مجلة البعث الأسبوعية

عيد ميلاد كتاب..

“البعث الأسبوعية” رامز حاج حسين

 

بوابة النعيم

كانت أمينة المكتبة التي تخبئ كنوز الدنيا كلها على رفوف غرفتها تشبه حارساً من حراس الخيال الأسطوري، نقف أمام مكتبتها أكثر مما نقف أمام محال الألعاب أو الأكلات الملونة: هناك سحر دفين داخل كل مجلد أو كتاب أو قصة، سحر لا بد من فك طلاسمه عبر طقوس القراءة البكر، والتحلّق حول من يستعير منا كتاباً، وكأننا خلية نحل نشطة حطت على قطعة من سكر!!

كانت طقوس القراءة ونهمها أشبه بالعدوى – الحميدة – تصيب كل منا بقشعريرة داء المطالعة، وكان أفصحنا وأقدرنا على القراءة ينبري ليقرأ على مسامعنا بعضاً من أحداث الكتاب والحكاية.

تمشي بنا الدروب لتعيدنا إلى منازلنا فقد تاهت بنا البوصلة يوم القراءة، وبتنا في عالم آخر مواز من البهجة لا يمت لعالمنا بشيء إلا بشواهد الطرق والأشجار التي تدلنا إلى عتبات المنازل.

كان ولا زال فرحي الأكبر هو اقتناء قصة أو مجلة أو كتاب ما يتحدث عن الطفولة وسحر عوالمها المتخيل من حكايات وأساطير، ويؤسفنا جميعاً أننا لم نستطع أن نربي أطفالنا – إلا ما ندر – على تلك المحبة التي أورثنا إياها أهلونا من تعلق بالكتاب ورائحة الورق والحبر الخام.

تغيرُ الأدوات حقيقةٌ واقعة، وانصراف الجيل الكامل إلى التقانات أمر لا يمكن التغاضي عنه، ولكن هل فكر أصحاب المسؤولية الثقافية بتطويع هذه التقانات وتسخيرها لنقل شغف القراءة والمطالعة لأطفالنا، فيجدون في وسائلهم الثقافية الجديدة غنىً ورونقاً يليق بالكتاب؟!

هل فكرنا بأن الطفل سيظل أبداً شغوفاً بجرس الحكاية وبطولة أبطال القصص، وسيكون دائماً على موعد مع الدهشة، أكان باب الدهشة تلك الكترونياً أم ورقياً أم مرئياً على الشاشة؟!

تتغير الأدوات والوسائل ويبقى الكتاب كتاباً، ويبقى باب السحر الموصد على الكنوز هو غلاف ذاك الكتاب، فهل لنا من خطة ناظمة لإعادة تحبيب أطفالنا بالحبيب الأجمل والأقدس، ألا وهو الكتاب؟!

المطلوب تضافر جهود نخب متنوعة من صناع الكتاب الكلاسيكي بطريقته الاعتيادية، ومن ثم تسليمه لمجموعة إبداعية تتقن برمجة وهندسة النظم الإلكترونية الحديثة لتحويله إلى كتاب تفاعلي، عبر الشابكة، أو تطبيقات الأجهزة الذكية بحيث يكون الطفل كيفما تلفت يجده.

 

التجربة عن وعي

لم يصبح كريستيان هانز أندرسن، مغني الأوبرا، الموسيقي اللامع الذي أراد أن يكونه، وطاشت أحلامه عبر الزمن، فقد كان صوته خائناً لأحلامه، وغير مقدّر له أن يكون ذاك المغني، وفشل أيضاً بأن يكون الكاتب المسرحي المرموق الذي حلم به، ولا حتى الروائي الذي كان يغذ السير في الدروب للوصول إليه؛ ولكنه من زاوية خفية من خفايا تجاربه كان الكاتب والمحدث الخرافي لقصص الأطفال الخيالية التي جعلته ألمع كتاب عصره والعصور اللاحقة.

قصص أندرسن تشبه طفولتنا البكر، تشبه مطاردتنا البريئة لأسراب اللقلق المهاجر التي ما إن تشاهد رقصنا تحتها على الطرق الترابية في الريف السوري حتى تبدأ بمشاكستنا، وتصنع حلقات من الرقص الجماعي في السماء، وتبدأ مبارزة الخيال هناك.. نحن واللقلق نتبارى فيمن أبرع في الرقص، نحن نحرك الأرض عواصف ترابية صغيرة، وهن يبعثرن الغيم برفيف أجنحتهن، ويخسر اللقلق ويغادر، وتبقى آثار أقدامنا الغضة مرسومة على تراب الطرق المفضية إلى منازلنا.

 

الكتابة للأطفال تشبه العناق

في كتاب المعانقات للكاتب الأورغوياني إدواردو غاليانو، هناك نص لقصة قصيرة تعبّر عن الشغف بالقراءة وأثرها السحري: “كان ثمة عجوز يقضي معظم وقته في السرير حتى أشيع عنه أنه يخفي كنزاً هناك، وفي أحد الأيام، اقتحمت جماعة من اللصوص منزله، وبحثوا في كل الأجزاء فلم يجدوا إلا صندوقاً في قبو المنزل، حينما فتحوه وجدوه ممتلئاً بالرسائل، التي كانت عبارة عن رسائل حب استقبلها ذاك العجوز في مختلف مراحل حياته الطويلة.

همَّ اللصوص بإحراق تلك الرسائل، ولكنهم بعد التشاور، قرروا إعادتها واحدة تلو أخرى، بوتيرة رسالة في كل أسبوع، ومنذ ذلك الحين، وفي ظهيرة كل اثنين، يلبث العجوز بانتظار ساعي البريد، وحالما يلمحه يندفع نحوه بلهفة وساعي البريد يمسك بيده الرسالة التي يعرف عنها كل شيء، حتى أن القديس بيتر كان يمكنه سماع ضربات ذلك القلب المجنون فرحاً باستلام رسالة من امرأة”.

 

كيف نبدأ بإعادة حب الكتاب

احتفلنا منذ أيام بعيد الكتاب، فهل فكرنا بطريقة، لعلها مناسبة، لنعيد ترتيب أولوياتنا بحيث يكون أطفالنا أول المستهدفين من حب الكتاب، ونعيد صناعة مكتبتنا المنزلية والمدرسية الخاصة بهم، وتعليمهم شغف القراءة والتعلق بها؟

تعالوا نبدأ لهم بحكاية القصة كما تربينا عليها: كان هناك خمسة وعشرون جندياً من الصفيح جميعهم أخوة أشقاء، لأنهم صنعوا من صفيح ملعقة واحدة، حملوا بنادقهم على أذرعهم ووجوههم مصوبة إلى الأمام، أما زيهم الجميل فكان باللون الأحمر والأزرق، الكلمة الأولى التي سمعوها في هذا العالم، عندما فتح غطاء العلبة حيث كانت هي: ياااه، إنهم جنود من الصفيح، والتي قالها الولد الصغير صائحاً، وصفق بيديه كانت هي هدية عيد ميلاده.

وضع الولد الجنود على الطاولة، وقد شابه كل جندي منهم الآخر عدا واحداً فقط كان مختلفاً بعض الشيء، وكانت له ساق واحدة، لأنه كان آخر من صنع ولم يكن هناك من الصفيح ما يكفي له، ولكنه وقف ثابتاً في مكانه على ساق واحدة، تماماً مثل الآخرين الذين وقفوا على ساقين اثنتين، ولكنه وحده الذي سيثير العجب.