مجلة البعث الأسبوعية

.. وفي النقد السؤال

“البعث الأسبوعية” ــ سلوى عباس

في نظرة للمشهد النقدي في النتاج الثقافي العربي، نظلم النقد إذا قلنا أنه لا يواكب الإبداع، لأن هناك أسماء نقدية لها بصمتها في مجالات الإبداع كافة. وإذا كان هناك من قصور وعدم مواكبة للنتاج الأدبي والإبداعي نقدياً، فهناك من يعزو الأمر لقلة عدد النقاد قياساً بعدد الأدباء الذين تتفاوت نتاجاتهم في جودتها الأدبية، وهناك من يجد أن الناقد لا يفتقد لآليات التخصّص فقط، وإنما يعاني من الانحياز وعدم الحياد ويخلط بين الموقف الشخصي والموضوعي. وبالمقابل، فإن الكاتب يضيّق على الناقد مساحة حرية النقد نتيجة تحسّسه المفرط من أي مساس نقدي يطال نتاجه الأدبي من قبل الناقد. والسؤال الذي يطرح نفسه هنا: إذا كان النقد عملية تالية للإبداع، فهل كل ما ينتج عن المؤسسات الثقافية والأدبية من نتاج يندرج تحت مسمى الأدب، ويمتلك مواصفات النص الأدبي الذي يتطلب النقد؟ وإذا لم يكن النقد قدحاً أو مدحاً – وهو ليس كذلك إلا في أدنى غاياته وأقلها نبلاً – فإنه، في أكثر تجلياته إيجابية، فاعل أكثر ما يكون حين يفضي إلى سؤال يفترض أن النص يستدعيه ويقود إليه، ويكمن في إجابته الغائبة أو المغيبة.

إنها لعبة النص في ألا يكون سهل المنال، ولا حتى على الأديب المنشئ، واضع النص نفسه، وإن غاية النقد بداهته في أن يكون النص غايته في بنيته وتركيبه، في تلافيفه الموغلة في التخفي، ولكنها لعين الناقد المتفحص تشي بالكثير وتدل على الكثير، وتستوجب من المتأمل أكثر من وقفة، وأكثر من سؤال، فهل النقد سؤال أم للنقد سؤال؟

قد يكون السؤال فاتحة بيان، فكثيراً ما يحمل إجابته في ذاته، وهنا يرتقي خطاب النقد في صيغة السؤال إلى حوار العارف لمن لا تنقصه المعرفة، هو حوار الوعي بالتلميح والإشارة، ذلك أن النقد لا يكون من فراغ، بل من امتلاء، من نص كامل لا تنقصه من عناصر الكمال إلا أن يقال فيه يكتمل في الآخر.. في القارئ اللمّاح، وفي الناقد الحصيف الرؤية.

هنا لا لزوم لقدح أو لمدح، فالسؤال قد يحيل ضمناً إلى شيء من هذا أو ذاك، ولكنه لا يقعّر الخطاب ولا يعي النبرة بما يمكن أن يثير النقد من أسئلة، ولكن للنقد سؤال أيضاً: فإذا كان النص امتلاء، صيرورة واكتمالاً في الرؤية والتعبير، فإن النقد ليس ذاك الفراغ الذي يحّن للامتلاء، وإن بدا في بعض إرهاصاته أنه كذلك، بل هو في واقع الحقيقة والمنطق حوار معرفي يتقصى الخصوصية والتفاصيل ولا تكفيه حدود الإدراك السطحي العابر. من هنا يسعى ويجهد للوقوف على ثوابت القيم في الفن منتوجاً ومشروعاً قيد الإنتاج: كيف؟ لِمَ؟ هل؟ لماذا؟ فالناقد ليس بمشرطه أول، ليس بدعاواه، ولا بفتاواه أيضاً، بل في انسياب الوعي يشمل كل ما يصدر عنه وهو في لبوس التائق للمعرفة أكثر إيناساً منه في لبوس العارف على الدوام.

إن النقد بناء أيضاً، حين يجلي الغموض ويمسح بنفَس حانٍ ملابسات الوضع والإنشاء تلك التي تفتن المبدع، تدهشه وتسحره، وتستعصي عليه، فهماً وإدراكاً، وإن كان يعيشها نشوءاً واكتمالاً، ويراها في نتاجه، ولا يدرك كنهها في غالب الأحيان، هي حكاية ذاك الميلاد المتصل لحظة التكوين التي تشي بكل شيء، ووحدة الناقد النبيل المنزه عن الغايات غير النبيلة، هو الذي يقبض على جوهر النبع ويمتح من مائه الزلال، ويقول لكل من غاب أو حضر، هاهنا موطن جديد للجمال، لغد أفضل، لكون أكثر نقاء، فتعالوا نغرف منه المزيد والمزيد.

أما ما يعوق النقد من مثالب النقاد، فهو مردود على من يعيثون ولا يعيشون، وهم قبل سواهم أكثر من يُحرمون من متعة الجمال، لأنهم حقاً ليسوا مؤهلين لإدراكها، وترانا عدنا للإدراك، وما نريد فيه ليس الظاهر من الأمور، بل الغوص فيها، فهل من مغامر على أن يكون غير مكابر أو متاجر.. لنبدأ إذاً.