مجلة البعث الأسبوعية

 الجزائر تقصي فرنسا الاستعمارية من الساحة الإفريقية

البعث الأسبوعية – طلال ياسر الزعبي

 

لا شك أن العلاقات الجزائرية الفرنسية تعيش الآن أسوأ مراحلها التاريخية، فقد أدّت التصريحات الأخيرة للرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون في القمة الفرنسية الإفريقية التي شكّك فيها بوجود أمة جزائرية قبل الحكم الاستعماري الفرنسي، مضيفاً: إن “النظام السياسي العسكري الجزائري أعاد كتابة تاريخ الاستعمار الفرنسي للجزائر على أساس كراهية فرنسا”، هذه التصريحات أدّت إلى ردّ فعل عروبي من الرئيس الجزائري عبد المجيد تبّون الذي قال: إنه ليس هناك أي جزائري سيقبل بتطبيع العلاقات مع فرنسا بعد التصريحات الخطيرة لرئيسها.

هذا التصريح كان الصاعق الذي فجّر الأزمة الأخيرة بين البلدين، أي السبب المباشر لهذه الأزمة إن صحّ التعبير، ولكن الأمر في الحقيقة أعمق بكثير من هذه الأزمة، فقد اعتاد الغرب الاستعماري بشكل عام، والمستعمر الفرنسي بشكل خاص، على الحديث عن مستعمراته السابقة بهذا النوع من الازدراء والإنكار دون أن يختبر ردّ فعل عنيفاً من البلد المعنيّ بهذا الازدراء.

غير أن الواقع مع الشعب الجزائري يختلف جذرياً في هذا الإطار، حيث إن الجزائر خضعت للاستعمار الفرنسي نحو 132 عاماً ارتكب خلالها المستعمر أبشع الجرائم بحق الشعب الجزائري ولا تزال صور هذه الجرائم ماثلة في وجدانه، وبالتالي فإن هذا الأمر له تراكمات تاريخية كبيرة لا يمكن أن يتم محوها بسهولة، وخاصة أن الدولة الفرنسية لا تزال إلى الآن ترفض الاعتراف بهذه الجرائم، الأمر الذي ولّد شعوراً عميقاً لدى الشعب الجزائري بأنه لابدّ من إجبار فرنسا الدولة على الاعتذار عن جرائمها، وإلا فعليها أن تتقبل مسألة تخفيض العلاقات معها، أو تغيير وجهة العلاقات الجزائرية في اتجاه آخر يستثني فرنسا من هذه القائمة.

والحقيقة أن هناك جهداً كبيراً تبذله الجزائر بقيادة رئيسها الحالي لتخفيض العلاقات الدبلوماسية والاقتصادية مع باريس تدريجياً، وذلك لإلغاء ارتباط الجزائر بفرنسا، وهذا الأمر طبعاً يقتضي توجيه العلاقات الاقتصادية باتجاه آخر، ظهر واضحاً في الآونة الأخيرة أن هذه الوجهة هي روسيا، حيث عمدت الجزائر إلى عقد مجموعة من الاتفاقات الاقتصادية والعسكرية مع الجانب الروسي، وأجرت مفرزة تابعة للبحرية الروسية مناورة مشتركة مع البحرية الجزائرية وتم استقبال الوفد الروسي استقبالاً حافلاً.

هذه المناورات رغم رمزيتها إلا أنها تخفي في طياتها رسائل كثيرة لجميع الأطراف وخاصة فرنسا، فقد تمت في الوقت الذي فشلت فيه جميع المحاولات الفرنسية لتخطي ردود الفعل الجزائرية الرسمية على تصريحات ماكرون المشينة، كما أنها جاءت بعد إجراءات اتخذتها الجزائر ردّاً على ذلك ابتداء من استدعاء سفيرها في باريس وإنهاء مهام القنصل الجزائري العام في فرنسا وسائر القناصل في المدن الفرنسية الرئيسية، ومنعها الطيران العسكري الفرنسي العابر نحو منطقة الساحل من التحليق في مجالها الجوي، ثم رفض الرئيس الجزائري الردّ على مكالمات ماكرون لإقناعه بالحضور إلى مؤتمر باريس حول ليبيا، رغم “أسف الأخير للخلافات وسوء التفاهم” الحاصل بين الطرفين على حدّ قوله، وكذلك إعلان فرنسا عن نيّتها صرف مكافآت للجزائريين الذي قاتلوا معها، وحتى محاولات وزير خارجية فرنسا جان إيف لودريان المتكررة للإصلاح باءت بالفشل.

كل هذه الردود التصاعدية من الجانب الجزائري توحي ربما بأن الأمر ليس فقط ردّ فعل على تصريحات ماكرون، وإنما هو توجّه جديد في السياسة الجزائرية عنوانه “محاربة النفوذ الفرنسي في القارة الإفريقية بالكامل” وليس فقط في الجزائر، ومحاولة إيجاد خصم قوي لفرنسا في القارة هو على الأغلب روسيا التي تطورت علاقات الجزائر معها بشكل دراماتيكي، وبات المراقب يلحظ بشكل واضح حلولاً روسياً تدريجياً في القارة الإفريقية على حساب النفوذ الفرنسي، فضلاً عن أن الحليف الروسي ذاته استحوذ على صفقات كبيرة في السوق الجزائرية كانت إلى وقت قريب حكراً على فرنسا، ومنها على سبيل الذكر وليس الحصر ما أظهرته بيانات جمركية روسية من ارتفاع صادرات المنتجات المصنفة تحت بند “سرية”، وهذه المنتجات عبارة عن أسلحة ومعدات عسكرية وذخيرة وطائرات عسكرية ومنتجات تستخدم في المجال النووي، حيث تصدرت الجزائر التصنيف في الفترة الزمنية المذكورة، بقيمة “منتجات سرية” من روسيا بلغت 985 مليون دولار، متقدّمة على الولايات المتحدة الأمريكية، فضلاً عن تعديلات تم إدخالها على دفاتر الشروط الخاصة باستيراد الحبوب لتتمكن شركات روسية عملاقة من دخول السوق الجزائرية و”إقصاء المورّدين الفرنسيين وخفض النسبة التي يسيطرون عليها في سوق الحبوب الوطنية”، وبالتالي استيراد 600 ألف طن من القمح الروسي بدلاً من الفرنسي.

وبعيداً عن الخلاف الذي أحدثته تصريحات ماكرون العدائية إزاء الأمة الجزائرية، فإن الدور الفرنسي الخبيث في إفريقيا وخاصة تسهيله تغلغل الكيان الصهيوني داخل إفريقيا وعلى حدود الجزائر الغربية ودعمه المستتر لقبول الكيان الصهيوني بصفة مراقب في الاتحاد الإفريقي، فضلاً عن التآمر الفرنسي الكبير على الدول العربية في القسم الإفريقي فيما سمّي “الربيع العربي”، والاستئثار الفرنسي بأغلب الصفقات الاقتصادية على الساحة الإفريقية، وخاصة الدول الغنية بالثروات الباطنية كالنيجر ومالي ونيجيريا، كل ذلك يعدّ دافعاً كبيراً لقيام الجزائر بقلب ظهر المجن على الدولة الفرنسية التي تستمر في النظر إلى الدول الإفريقية على أنها مستعمرات لها، وبالتالي لابدّ من قيام الجزائر بتقليم أظافر فرنسا في القارة تدريجياً، وهذا بالضبط ما يؤكده الحديث الأخير لسفير نيجيريا في الجزائر محمد مبدول، خلال مقابلة مع صحيفة “بانش” النيجيرية، عن آفاق العلاقات الاقتصادية بين نيجيريا والجزائر، بما في ذلك مشروع أنبوب الغاز بين البلدين، الذي سيتم من خلاله تزويد أوروبا بالغاز الطبيعي النيجيري.

إذن هناك سعي جزائري حقيقي لاستلام زمام المبادرة في القارة الإفريقية وعدم ترك الباب مفتوحاً للاعبين الخارجيين في السيطرة على هذه السوق، فضلاً عن قيامها بتسهيل دخول منافسين جدد إلى هذه الساحة مثل روسيا والصين وإيران، وذلك لمنع فرنسا خاصة من التعامل مع هذه القارة على أنها حديقة خلفية لها، وبالتالي تحقيق استقلال القارة مجتمعة عن المستعمر القديم، وهذا ما يدفع إلى انحسار الدور الفرنسي هناك تدريجياً، وهو بالضبط ما يدفع الساسة الفرنسيين إلى إبداء قلقهم من السياسة التي تنتهجها الجزائر في القارة الإفريقية.