ثقافةصحيفة البعث

الشيخ زكريا أحمد لحن لجميع مطربين عصره دون استثناء

ينبغي الوقوف عند الصلح الذي تمَ بين أم كلثوم وبين شيخ الملحنين زكريا أحمد في عام 1960بعد أن امتد وطال حتى حسمته المحكمة بالصلح، وكان باكورة هذا الصلح بين العبقريين اللحن الرائع لأغنية “هو صحيح الهوى غلاب” التي كتبها بيرم التونسي وشدت بها أم كلثوم في بداية الموسم الغنائي.

ولد زكريا أحمد في القاهرة عام 1896، وهو الذكر الوحيد الذي كتبت له الحياة بين أخوته، وقد لقبه أبوه بالشيخ حرصاً عليه من الحسد والحساد في ألا تكتب له الحياة، فالذكور في أسرة أحمد صقر لم تكن تعيش بعد ولادتها أكثر من أسبوعين، وعرف زكريا منذ طفولته بالشيخ ليغدو هذا اللقب جزءاَ لا يتجزأ من اسمه.

دفعه أبوه إلى كتاب الحي، ثم إلى الأزهر حيث درس سبع سنوات قبل أن يطرد منه لسوء سلوكه، ولم يكن نصيبه في المدارس الأخرى التي انتسب إليها بأحسن من نصيبه في الأزهر، فقد ظلَ التلميذ المشاكس الشغوف بالغناء والموسيقا الذي يحيل ساعات الدرس إلى ساعات من الطرب واللهو والمرح، الأمر الذي جعل الأب يقف حائرا فيما يفعله تجاه هذا الابن العاق، ويبدو أن إفراط الوالدين في حبه وإيثاره على أخواته البنات، منذ طفولته، هو الذي دفع الابن في التمادي أكثر في سلوكه، فصار يرتاد المسارح والأمكنة الأخرى التي تؤمن له إشباع ميوله الفنية.

درس الشيخ زكريا على يد درويش الحريري الذي خرَج كثيرا من العباقرة الذين اشتهروا بأغانيهم وألحانهم، وبقي معه حوالي عشر سنوات، وهذا يعود إلى أنه تعلَق بأخت درويش الحريري، وقد تزوَج منها عام 1919، فتعلَم الموشحات والأدوار الدنيوية والقصائد الدينية، وقد سماه الحريري بـ “الملقاط” لحفظه السريع والتقاطه لكل لحن يتردد أمامه.

انكب على دراسة العود، حتى أتقن العزف عليه. وفي العام 1923، بدأ يلحن لمشاهير المطربين، فلحن لزكي مراد ومنيرة المهدية وصالح عبد الحي وغيرهم، ثمَ اتجه إلى المسرح الغنائي، فتعاقد مع مسرح” علي الكسار” فلحن ستا وستين أغنية قام بتسجيلها على أسطوانات شركة “بيضا فون”، وكذلك عمل مع عدة فرق، والفرقة القومية للتمثيل والسينما أكثر من 580 لحنا مشهودا لها بالكفاءة الموسيقية وبالتعبير الدرامي والتطريب، وأصبح طاقة موسيقية هائلة لا شبيه لها في تاريخ الغناء العربي، وتقدر ثروته من الألحان بما يزيد عن ألف وخمسمائة لحن.

تعرف على أم كلثوم في العشرينيات، ولم يلحن لها إلا في العام 1931، وتعتبر “كلثومياته” من الروائع، ثمَ نشأ خلاف بينهما قادهما إلى المحاكم، وطالت الدعوى لأكثر من عشر سنوات، ثم عمل القاضي على إجراء الصلح بينهما، ونجح في ذلك، بعد أن تبين له أن الرغبة موجودة لدى الجميع، فجمع أم كلثوم وزكريا أحمد ومحامي الإذاعة، فتصافت القلوب، وبذلك انتهى هذا النزاع الذي استمر لفترة طويلة، وينص الاتفاق على أن يقوم الشيخ زكريا أحمد بتلحين ثلاث أغنيات لأم كلثوم لقاء سبعمائة جنيه للأغنية الواحدة، وأن تدفع الإذاعة له مبلغ ألف جنيه كترضية، شريطة أن يعاود نشاطه الإذاعي في التلحين لمطربيها بعد الانقطاع الطويل.

تمَ الصلح كما هو مدوَن في سجلات محكمة القاهرة في عام 1960، وعكف زكريا أحمد على تلحين ما تمَ الاتفاق عليه، فأنهى رائعته “هو صحيح الهوى غلاب” التي كتبها بيرم التونسي، لتغنيها أم كلثوم في بداية موسمها.

لم يتمكن زكريا أحمد من تنفيذ بنود الاتفاق، ولم يلحن من الأغنية الثانية “أنساك ده كلام” والتي لحنها فيما بعد بليغ حمدي، سوى المقدمة والمطلع، فقد فاجأته الذبحة الصدرية، وهي الثالثة منذ أصيب بها لأول مرة في عام 1954 ليقضي بها في 14 شباط 1961 عن عمر يناهز الخامسة والستين.

أم كلثوم الواعية والحذرة للأعمال التي تؤديها، طلبت من رياض السنباطي أن يراجع بعض الألحان التي ستغنيها، وعندما سئل عما إذا كان سيدقق في ألحان الشيخ زكريا والقصبجي، قال: “دول أساتذة، والسنباطي لا يدقق في أعمال الأساتذة”.

وأبرز أعمال زكريا أحمد لأم كلثوم في الثلاثينيات، هي: “اللي حبك يا هناه”، “جمالك ربنا يزيده”، “يا ما أمر الفراق”، “العزول فايق ورايق”، “يا ليل نجومك شهود”، “يا بشير الأنس”، “القطن”، وأدوار: “امتى الهوى يجي سوا”، “يا قلبي كان مالك”، “مين اللي قال إن القمر”، أما أعماله خارج الكلثوميات فلا يمكن إحصاؤها، ولعدد كبير من مطربي العشرينيات والثلاثينيات، يأتي في مقدمتهم: صالح عبد الحي، منيرة المهدية، فتحية أحمد التي خصها بروائع لا تحصى من القصائد والطقاطيق، لعل من أجملها أغنية” يا حلاوة الدنيا حلاوتها”.

قبل رحيل زكريا أحمد، بشهرين مات صديق عمره وناظم جلَ أغانيه الشاعر بيرم التونسي، فحزن عليه كثيرا، وانسحب هذا الحزن على ما بقي له من أيام حتى قيل إنه كان من أسباب وفاته.

عندما يقولون عنه” إنه شيخ الملحنين” فإن هذا القول له ما يبرره، فهو الملحن الأقوى بين العمالقة، وهو الأكثر تمرسا في المحافظة على الموسيقا العربية، والأكثر فهما للمقامات وأساليب معالجتها، وفي استخدامه للضروب والأوزان التي يغني ألحانه بها، وهو الأكثر وعيا لدور الموسيقا العربية الخالصة والخالية من الشوائب، هو الابن البار لسيد درويش. وعلى الرغم من الروائع التي أعطاها لأغاني أم كلثوم خلال الأربعينيات، فسوف تظل رائعته” قولي لطيفك ينثني عن مضجعي” أعظم ما لحن من قصائد، فهي تتطاول بمقاماتها الثلاثة، حتى تكاد لا ترى قصيدة أخرى أمامها، غير أنه لم يستمر في هذا السبيل، وظلَ مخلصاَ للأغنية الخفيفة والأغنية الكلاسيكية الطويلة التي بزَه السنباطي في استكمال خصائصها، لتغدو بفضله وفضل زكريا والقصبجي، ثم عبد الوهاب فيما بعد، العمل الشامخ الذي ظلَ راسخاَ كالطود.

و”شيخ الملحنين” لا تعني بالضرورة، شيخ العباقرة، فكلَ واحد من هؤلاء العمالقة (زكريا والقصبجي والسنباطي وعبد الوهاب) شيخ قائم بذاته من خلال فنه وعطائه وشخصيته، ويجب ألا نستثني فريد الأطرش، فهو الآخر شيخ الملحنين بأسلوبه وشخصيته وعطائه، مهما كان نوع هذا العطاء الذي تراوح بين بين، ولازم في بعض الأحيان وتيرة واحدة، ومقامات معينة، خدمت نبوغه في الحدود التي استطاع فيها أن يخدم الأغنية الدارجة.

فيصل خرتش