دراساتصحيفة البعث

قراءة في كتاب “جاسوسات بنَينَ وكالة المخابرات المركزية”

علي اليوسف

بعد كتابها “صعود الفتيات” الأكثر مبيعاً في نيويورك، أصدرت الكاتبة ناتاليا هولت في أيلول الماضي كتاباً بعنوان “بنات حكيمات.. جاسوسات بنَينَ وكالة المخابرات المركزية“، والذي تدور أحداثه عن كادر صغير من الجاسوسات الإناث المؤثرات في الأيام الأولى المحفوفة بالمخاطر من وكالة المخابرات المركزية الأمريكية، وهن النساء اللواتي ساعدن في إنشاء أنموذج جديد للتجسّس، وفتح مسارات جديدة للمساواة في مكان العمل، في حقبة ما بعد الحرب العالمية الثانية.

في أعقاب الحرب العالمية الثانية، كان لأربع جاسوسات (أديلايد هوكينز، وماري هاتشيسون، وإيلويز بيغ، وإليزابيث سودماير) دور حاسم في المساعدة على بناء منظمة جديدة تّعرف الآن باسم وكالة المخابرات المركزية، من خلال تطوير أدوات مبتكرة لجمع المعلومات الاستخبارية، ما يعني أن الكتاب بعيد عن كتب وروايات الجاسوسية النمطية.

أفردت الكاتبة فصلاً لكلّ جاسوسة تناولت فيه دورها الوظيفي، وحتى حياتها الاجتماعية. تقول الكاتبة: طوال حقبة الحرب الباردة، كان لكلّ امرأة دور حيوي تلعبه على المسرح الدولي. ارتقت أديلايد في الرتب، حيث طوّرت أنظمة تشفير جديدة، وطوّرت طريقة تواصل الجاسوسات مع بعضهن. بينما عملت ماري في الخارج في أوروبا وآسيا، حيث أقامت شراكات وولاءات استمرت عقوداً. أما إليزابيث فقد كانت تخاطر بحياتها في الشرق الأوسط من أجل الحصول على معلومات استخباراتية بشأن الأسلحة السوفييتية. وأخيراً كان لــ إليزابيث تأثير في العمليات العلمية والتقنية في جميع أنحاء العالم، ما أدّى في النهاية إلى كشف التهديدات الإرهابية العالمية.

وفي السردية الروائية، لم تغفل الكاتبة الجانب الأنثوي في روايتها، وأكدت أنه من خلال صداقتهن وإحساسهن المشترك بالهدف، ارتقين إلى مناصب السلطة وتمكّنّ من إحداث تغيير حقيقي في منظمة تقليدية “ذكورية”، ولكن ليس من دون بعض الخسائر المأساوية مثل الابتعاد عن الحب وتكوين الأسر كباقي العائلات.

بعيداً عن البحث الدقيق والسردية القصصية، أجرت هولت مقابلات مباشرة مع المسؤولين السابقين والحاليين في وكالة المخابرات المركزية، وكشفت عن الوثائق الحكومية التي رفعت عنها السرية، وهو ما أهّلها لكشف قصص هؤلاء النساء الأربع، بحيث يلقي الكتاب الضوء على دور النساء، وروح القتال لديهن ودورهنّ الفعّال في الولايات المتحدة.

تقول الكاتبة: “الأمريكيون مدينون بالكثير لهؤلاء الفتيات الأربع، فهن ساعدن في بناء مكتب الخدمات الاستراتيجية في فترة الحرب العالمية الثانية في وكالة الاستخبارات المركزية. إن ما أنجزنه، في حساب أخلاقي كامل، قد يكون مطروحاً للنقاش، ولكن في سجلات التجسس التي غالباً ما تركّز على الرجال، فإن فهم كيف أن هؤلاء النساء لم يساهمن فقط في النظام العالمي الناشئ بل فيما يخالفه أيضاً، أمر حيوي”.

يغطي الكتاب الكثير من المجالات، بما في ذلك انتقادات حادة للمهام، وتركيز وكالة المخابرات المركزية والتغيير من التجسّس إلى “العمليات السرية”، حيث تتلاعب هولت بالكثير من المواد، بحيث يتنقل القارئ ذهاباً وإياباً بين النساء المختلفات، متتبعاً حياتهن المهنية أثناء وبعد الحرب العالمية الثانية في شكل متعرّج معقد.

لقد نسجت هولت قصة مسلية ومفيدة عن المهن غير العادية، وتاريخ حرفة التجسّس في القرن العشرين، والعقبات التي غالباً ما تواجهها العميلات من الإناث، وهي نظرة كاشفة عن المساهمات المهمة التي قدّمتها النساء لوكالة المخابرات المركزية.

تسرد هولت بشكل واضح المسيرة المهنية للجاسوسات الفتيات، بما في ذلك حوادث متعدّدة من الميدان، كما تعرض هولت تفاصيل عمل هذا الفريق، وذكاء المرأة ومعرفتها وعزمها، وتسلط الضوء أيضاً على الطرق التي لم تحصل فيها على التقدير الذي تستحقه.

“بنات حكيمات” يركّز بشكل خاص على تسلسل الحرب الباردة، وسباقات التسلح الفضائية والنووية، مع مشاركة أسرار العطاء في الوقت نفسه من حياة كلّ امرأة لجعل هذا التاريخ السياسي شخصياً. لقد استخدمت المؤرخة هولت موهبتها في صياغة الوثائق الحكومية التي رفعت عنها السرية لتظهر كيف غيّرت الجاسوسات النساء اللعبة، ولتظهر أنه لسوء الحظ، يركّز التاريخ والأساطير بشكل كبير على الرجال الذين كانوا جزءاً من وكالة المخابرات المركزية، لكن الحقيقة هي أن كلاً من الرجال والنساء شكلوا “المحاربين الصامتين” الذين وضعوا حياتهم على المحك لجمع المعلومات الاستخبارية.

يسلّط الكتاب الضوء على الدور المهمل، منذ فترة طويلة، الذي لعبته النساء في عالم الحرب الباردة الغامض للجواسيس والمتعاملين معهم. وباستخدام الحنكة التي اكتسبتها من روايات متعدّدة، تسلّط هولت الضوء على تجارب ومغامرات فرقة العاملات الإناث اللواتي ساعدن في توجيه مسار السياسة الخارجية للولايات المتحدة في فترة ما بعد الحرب العالمية. حتى الطريقة التي تمّ فيها نسج السير الذاتية لهؤلاء النساء ضمن عملهن في الخارج، هي بلا شك إضاءة على عالم عدم المساواة بين الجنسين في وكالة المخابرات المركزية. في هذا الكتاب، تسحب ناتاليا هولت الستار عن عالم التجسّس لتظهر حفنة من النساء المجهولات اللواتي أسّسن وكالة المخابرات المركزية.