دراساتصحيفة البعث

محاكمات “نورنبيرغ”.. الناتو منظمة إجرامية

عناية ناصر

ما هي المنظمة الإجرامية؟. يتجه عقل الشخص العادي عند التفكير بهذا السؤال على الفور إلى كارتلات المخدرات المحلية والدولية، وعصابات الاتجار بالبشر، وجمعيات استغلال الأطفال، ومواقع المقامرة أو المافيا.

لكن الواقع غير ذلك، ربما بسبب الصورة المصطنعة والمزيفة المدعومة من قبل وسائل الإعلام الغربية، لم يتم التعرف على الناتو بسهولة على أنه “منظمة إجرامية”. لم يكن الناتو في البداية منظمة إجرامية، حيث تنص المادة 5 من معاهدة إنشاء الناتو في 4 نيسان 1949: ” تتفق الأطراف على أن أي هجوم مسلح ضد طرف أو أكثر من الأطراف في أوروبا أو أمريكا الشمالية يعتبر هجوماً ضد الجميع، وفي حال حدوث مثل هذا الهجوم المسلح، فإن لكل دولة ممارسة حق الدفاع عن النفس الفردي أو الجماعي المعترف به في المادة 51 من ميثاق الأمم المتحدة”.

في البداية، كان لدى الناتو هدف أمني مشروع يتوافق مع الفصل الثامن من ميثاق الأمم المتحدة- المواد “52-54” – والذي يسمح بترتيبات إقليمية، شريطة أن تكون متسقة مع هدف وغرض ميثاق الأمم المتحدة، وخاضع لمجلس الأمن. وفقاً للمادة 103 من الميثاق فيما يتعلق بـ “شرط السيادة”، يكون للميثاق الأسبقية في حالة وجود تعارض بين أي معاهدة والميثاق.

زعمت دول أوروبا الغربية أن الاتحاد السوفييتي يهدد أمنها، وأنه ينوي التوسع، ولذلك اعتبرت أنه من المشروع للدول الغربية أن تتخذ تدابير للأمن الجماعي. كان من إحدى نتائج معاهدة “الناتو” هو أن الاتحاد السوفييتي نظم تحالفاً منافساً يسمى حلف وارسو -1955-1991-، وأن التهديد بالدمار المؤكد المتبادل من خلال الأسلحة النووية ردع كلا المعسكرين عن مهاجمة بعضهما البعض.

تغير هذا الحال عندما قام الرئيس السوفييتي ميخائيل غورباتشوف في عام 1989 بسحب القوات السوفيتية من وسط وشرق أوروبا، ووعد الرئيس الأمريكي جورج إتش بوش، ووزير خارجيته جيمس بيكر أن الناتو لن يتحرك “بوصة واحدة” باتجاه الشرق، وهنا بدت للحظة إمكانية تحقيق السلام العالمي من خلال نزع السلاح المتبادل. لكن أن هذا الحلم تلاشى عندما قرر الرئيس الأمريكي بيل كلينتون اتباع نصيحة المحافظين الجدد، وخريطة طريق إمبريالية من قبل عالم السياسة زبيغنيو بريجنسكي، الذي ابتكر فكرة عالم أحادي القطب تحت حكم مهيمن للولايات المتحدة.

ندد جورج كينان، المتخصص بالشؤون الخارجية الأمريكية، بقرار كلينتون بتوسع الناتو شرقاً، في مقالته في صحيفة نيويورك تايمز في 5 شباط 1997، والذي أكد فيها أنه انتهاك للوعود الملزمة، ووصفه بأنه “خطأ مصيري”.

بعد عام 1997، تحول الناتو تدريجياً من تحالف “دفاعي” إلى قوة جيوسياسية عملاقة لإخضاع بقية العالم. في التسعينيات، شاركت دول الناتو في تدمير وحدة أراضي يوغوسلافيا، وفي عام 1999 قصف الناتو يوغوسلافيا دون موافقة مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة، منتهكاً بذلك المادة 2 الفقرة (4) من ميثاق الأمم المتحدة.

كانت الحرب التي شنها الناتو في عام 1999 بمثابة التجهيز لما سيتبع ذلك، كما أدى إلى ارتكاب جرائم حرب خطيرة، بما في ذلك القصف العشوائي للمراكز المدنية واستخدام الأسلحة العشوائية، مثل اليورانيوم المنضب، والقنابل العنقودية. لم تكن يوغوسلافيا سوى مقدمة لسلسلة من الاعتداءات على أفغانستان والعراق وليبيا وسورية وأماكن أخرى، ارتُكبت خلالها جرائم حرب، وجرائم ضد الإنسانية في إفلات تام من العقاب، حيث فشلت المحكمة الجنائية الدولية، التي تعمل أساساً في خدمة “الغرب الجماعي”، في التحقيق في هذه الجرائم، ولم يتم توجيه الاتهام إلى أي سياسي أو زعيم عسكري غربي.

في محاكمات “نورنبيرغ “في عامي 1945 و 1946 ، كان الوفد الأمريكي يتصور محاكمة 14 منظمة على أنها إجرامية، وتقلص العدد لاحقاً إلى ستة وهي :حكومة الرايخ، والهيئة القيادية للحزب النازي، والغستابو، وكتيبة الإنقاذ، وقوات الأمن الخاصة النازية، و قوات العاصفة، وهيئة الأركان العامة والقيادة العليا للقوات المسلحة الألمانية “فيرماخت “.

كان الهدف هو إعلان هذه المنظمات إجرامية بأثر رجعي، بحيث يمكن محاكمة أعضائها بشكل أسرع لمجرد العضوية.  بالطبع، هذا المفهوم ينتهك سيادة القانون، لأنه يستلزم عقوبة جماعية، ويخّرب مبدأ قرينة البراءة.  في حين اعتبرت محاكمات “نورنبيرغ” أن ثلاث منظمات كانت إجرامية في حد ذاتها، إلا أنه لم يعتبر جيش الإنقاذ أو حكومة الرايخ أو الـ”فيرماخت” إجرامياً. لكن محاكمات “نورنبيرغ” خلقت سابقة (وسابقة سيئة) يمكن تطبيقها على دول الناتو وقواتها العسكرية.  ومع ذلك، فإن هذا ليس ضرورياً، نظراً لأن انتهاكات اتفاقيات ” لاهاي”، و”جنيف” من قبل قوات الناتو موثقة جيداً، بحيث يمكن لأي محكمة ذات اختصاص مناسب أن تحاكم أعضاء قوات الناتو بموجب الاتفاقيات القائمة بالفعل دون الحاجة إلى الاعتماد على مفهوم منظمة إجرامية.

خلاصة القول هي أنه بينما ارتكبت قوات الناتو منذ التسعينيات جرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية، فإنه من المهم اليوم أن الرأي العام العالمي يعترف بحلف الناتو باعتباره تهديداً لسلام وأمن البشرية، كما تشكل استفزازاته المتسلسلة أكبر خطر على البشرية وفقاً للنوع، بينما يستحق حلف الناتو تسمية “منظمة إجرامية”، فإن المهم ليس إجراء محاكمات جرائم الحرب، بل تحييد التهديد.