الصفحة الاخيرةحديث الصباحصحيفة البعث

أماديح زائفة.. لكاتب عنصري!

حسن حميد   

منذ وعيتُ على الدنيا، وأنا أكره العماء، والجهل، والظلم، والبطش، لأنها كلّها جهات بلا ضوء، جهات لا ترى، جهات متاهة لا دروبها بادية، ولا نوافذها مفتوحة، ولا مراياها قابلة للحوار، ولعلّ مرجعيات أكثر مآسي البشر، وخراب العمران، والاستعلاء المقيت، والتقليد المشين تعود إلى هذه الجهات فاقدة البصر والبصيرة.

أقول هذا استهلالاً، وأنا أرى الأماديح الزائفة التي لحقت بالكاتب ميلان كونديرا، بعد رحيله عن حياة نافت على أربع وتسعين سنة، وهي أماديح ليست آتية من كتّاب أعمارهم طرية، أو تجاربهم قصيرة، بل من كتّاب شاخت تجاربهم مثلما شاخت أفكارهم، وعيب هذه الأماديح أنها لا ترى صورة ميلان كونديرا كاملة أو واضحة، لأنها أماديح تردّد صدى كتابات منتشرة وشائعة في مواقع التواصل الاجتماعي، أيّ كتابات بحاجة إلى التدقيق والمضايفة وقول الحقيقة كاملة، لأنها كتابات وضعت أصلاً من أجل الدعاية والترويج لكتب ميلان كونديرا بوصفه كاتباً عالمياً!. وهؤلاء المادحون العرب، من أهل الثقافة، لم يتطرقوا إلى سيرة حياة ميلان كونديرا، ولا لمواقفه التي اتخذها منذ أن غادر بلاده التشيك، عام 1975، ولجأ إلى فرنسا، وطلب جنسيتها منذ يوم وصوله الأول، والأدهى أنّ مادحي كونديرا، استلّوا المكتوب عنه من مواقع التواصل الاجتماعي ونسبوه لأنفسهم كي لا تفوتهم فرصة الحديث عن كاتب أجنبي كبير، كان مرشحاً لجائزة نوبل لأسباب سأذكرها لاحقاً، أي أن هذه الكتابات المادحة ليست محتشدة بالتغرير فقط، بل محتشدة بالجهل والعماء لأنّ هذا الكاتب، ميلان كونديرا، سفّه المجتمع العربي بشراً وجغرافية، وتاريخاً، كيما يمتدح الإسرائيليين مديحاً لا يليق بهم لأنهم قتلة، ومجرمون، وسافكو دماء، وجهة الظلم في منطقتنا، وصنّاعُ المجازر والخوف والرعب والموت في بلادنا العزيزة فلسطين.

ميلان كونديرا، من تشيكوسلوفاكيا، من عائلة يهودية، انتسب للحزب الشيوعي، وكان مع ستالين، ثم انقلب على الحزب وستالين، وشتم الحزب وستالين، وكان مخبراً سرياً لصالح الحزب، وشى برفاقه فقضوا سنوات طوالاً من حياتهم في السجون، ثم هرب إلى فرنسا عام 1975 وتعلّم الفرنسية، وأراد أن يصبح كاتباً فرنسياً، وقد كتب بالفرنسية رواياته الأخيرة التي اتصفت بالتفكير والذهنية، لأنه تأثّر بنيتشه، فطغت الفكروية على الأدبية في أعماله، وقد عرف شهرة في فرنسا، فروّج له المترجمون العرب، وتلقّفت رواياتِهِ المترجمة دورُ النشر العربية، وخلال عشر سنوات من حضوره الأدبي في فرنسا منحته الحكومة الإسرائيلية جائزة القدس، وقد جاء إلى بلادنا العزيزة، وألقى خطاباً، سمّاه خطاب القدس، قال فيه: إنني سعيد ومبتهج لأنّ الشعب اليهودي استطاع العودة إلى أرضه بعد أن أحاط به ظلمُ الأوروبيين، وأنّ “إسرائيل” اليوم قطعة حضارية تعيش خارج أوروبا، وهي تشكّل قلب أوروبا الذي يعيش خارج جسدها، وعلى “إسرائيل” تستند الآمال الأوروبية كي تحضّر هذه المنطقة /الشرق الأوسط/ التي هي مكان جغرافي متخلّف مياهه آسنة.. إلخ.

طبعاً الخطاب طويل، وهو منشور، وعلى أصحاب الأماديح العودة إليه، والبعد عن الارتجال على طريقة الإيمان بـ”كلّ فرنجي برنجي”، وقد نُشر خطابه في كتب ترجمها المترجمون العرب، ونشرتها دور النشر العربية في جغرافيات عربية متعدّدة.

لقد فرح كونديرا بجائزة القدس الإسرائيلية، لأنها تعدّ الممر الأكثر إنارة، كما يقولون، للوصول إلى جائزة نوبل، وقد حدث مثل هذا الأمر لـ أكتافيو باز المكسيكي، ويوسا البيروفي /تمثيلاً لا حصراً/.

كونديرا الذي يقول عنه مادحوه من المثقفين العرب إنه صاحب مشاعر رهيفة، وحساسية إنسانية في غاية اللطف، لم يرَ ماذا فعله الإسرائيليون بالشعب الفلسطيني، ولم يسمع بمجازر دير ياسين، والدوايمة، وكفر قاسم، والطنطورة، وجسر بنات يعقوب، ولعله لم يسعَ لأيّ شكل من أشكال المراجعة التاريخية لمعرفة ما فعله أبناء جلدته بالشعب الفلسطيني، وحين عرف وسمع ورأى ما قام به الإسرائيليون من اقترافٍ بشعٍ لمجزرة صبرا وشاتيلا، قال عن ضحاياها إنهم ديدان! وحين هجّر السلاح الإسرائيلي الفلسطينيين من لبنان عام 1982، عبر اجتياح دموي، قال: إنه يشعر بالسعادة لأنّ “إسرائيل” تحمي سياجها الخارجي، وإنّ نصر “إسرائيل” هو نصر شخصي له! وهذا القول يذكّرنا بما قاله بورخيس(1899 -1986)  بعد حرب عام 1967.

نعم، ميلان كونديرا أنموذج لكتّاب أجانب آخرين سبقوه في التجربة، عاشوا في أوروبا، وأمريكا، وبلدان أمريكا اللاتينية، وقالوا بحقنا كلاماً رجيماً لأنهم كانوا مع الاستعمار الإنكليزي والفرنسي والإسباني، أيّ أنهم كانوا مع الجلاد، ولم يروا دم الضحية، ولم يسمعوا صراخها، ولم يقولوا الحقيقة، لأنّ معاني العماء والجهل أحاطت بهم، فأغلقت عليهم البصر والبصيرة، وقد كان كونديرا أحد اللاحقين بهم ثقافة وسلوكاً.. لهذا لحقت به الأماديح الزائفة.

Hasanhamid55@yahoo.com