مجلة البعث الأسبوعية

ألمانيا تطلق استراتيجيها للأمن القومي لأوّل مرة بعد الحرب العالمية الثانية   

البعث الأسبوعية- ريا خوري   

لأول مرة قامت ألمانيا الاتحادية  بالإعلان عن انطلاق إستراتيجية للأمن القومي بعد نقاشات ومداولات طويلة وصراعات، فقد وضعت ألمانيا لأوّل مرّة إستراتيجية للأمن القومي بعد الحرب العالمية الثانية، ما دفع  الحكومة الاتحادية أن توضح كيف تنوي الرد على التهديدات الداخلية والخارجية التي تتعرّض لها، أو التي يمكن أن تتعرّض لها مستقبلاً . فقد عرض المستشار الألماني أولاف شولتس خلال المؤتمر الصحفي الذي عُقد يوم 14‏/06‏/2023 في برلين وأربعة وزراء من حكومته هذه الإستراتيجية. وكانت الحكومة الاتحادية في برلين، قد قدّمت ورقة مكوّنة من أكثر من أربعين صفحة، تضمنت بنوداً وخططاً إستراتيجية، والتي كانت موضع نقاش مستمر وصراع بين الأطراف المُشكّلة للتحالف الحكومي المؤلف من عدة أحزاب منذ عدة أشهر.

وصف المستشار أولاف شولتز الإستراتيجية التي اعتمدتها حكومته بأنها “قرار غير عادي ومهم جداً”، وأكّد أنّ المهمة المركزية لدولة ألمانيا هي من أجل ضمان أمن مواطنيها.

الجدير بالذكر أن الورقة المتضمنة الإستراتيجية كان قد قدّمها المستشار شولتس مع وزيرة الخارجية انالينا بربوك، ووزير الدفاع بوريس بيستوريوس، ووزيرة الداخلية نانسي فيزر ، ووزير المالية كريستيان ليندنر.

في هذا السياق جاء الحديث مطولاً حول أهمية التحدي الذي واجه القادة الألمان أثناء وضع هذه الإستراتيجية، لأنه بدون الأمن لا وجود للحرية، ولا للاستقرار، ولا للازدهار- حسب تعبيرهم -، وأن محورية التعاون ضمن الاتحاد الأوروبي وحلف شمال الأطلسي ثابتة في هوية ألمانيا فيما يتعلق بالسياسة الأمنية. وحدّد المستشار  شولتس في أثناء عرضه للورقة على أنّ صداقة ألمانيا عميقة جداً مع فرنسا  وشراكتها وثيقة مع الولايات المتحدة الأمريكية!

إن الخطة الإستراتيجية الألمانية هي كتاب أبيض، أقرب إلى كونه مجرّد ورقة توجيهية لهذه السياسة. ويُعد ذلك تطوراً جديداً ونوعياً للتخطيط الأمني الاستراتيجي في ألمانيا الاتحادية، أملاه السياق الدولي والإقليمي وحراكاته المتسارعة، وأهم معالمه حرب أوكرانيا، والصعود الصيني.

وفي قراءة لتلك الإستراتيجية نجدها تُحدّد  ثلاثة أبعاد مركزية للأمن المتكامل، هي: الدفاع، والاستدامة، والمرونة. تربط الوثيقة أولاً بين تقوية القدرات الدفاعية وبين الدفاع عن الحرية  والسلام، مشيرةً إلى ضرورة أن تمتلك ألمانيا القدرة الكافية على حماية نفسها والدفاع عن حلفائها، وضمان أن المواطنين الألمان يمكنهم العيش في أمن وسلام، والتمتع بالحرية في المستقبل أيضاً.

وفي جوانب عديدة من الإستراتيجية، تظهر انعكاسات الحرب الأوكرانية بشكلٍ واضح ، لا سيما ما يتعلّق بزيادة الإنفاق الدفاعي الذي وصل إلى نسبة إثنان بالمائة من الناتج المحلي الإجمالي، وفق ما تعهد به سابقاً المستشار أولاف شولتس، ووفق أهداف حلف شمال الأطلسي. وتُعَد الرؤية الألمانية للصين من أهم الجوانب التي  بحثتها واهتمت بها وتضمنتها إستراتيجية الأمن القومي الألمانية، وهو الأمر الذي فصّلت فيه الإستراتيجية الألمانية الأولى للتعامل مع الصين، الصادرة في الثالث عشر من شهر حزيران الماضي .

تحمل بنود الإستراتيجية الألمانية وموادها تجاه الصين العديد من الرسائل التي ترسم مستقبل العلاقات الألمانية – الصينية ، بل أيضاً العلاقات الصينية –  الأوروبية:

 

  • أولاً: تعمد الإستراتيجية إلى مواجهة الصعود الدولي  المتسارع للصين. فقد بدا واضحاً أن ألمانيا تحاول إجهاض محاولات الصين فرض نظام دولي متعدّد الأقطاب تكون فيه قوى عظمى، بخاصة مع تعارض القيم والمبادئ بشكلٍ عام بين الجانبين.
  • ثانياً: تتعهد ألمانيا بعدم التضحية بعلاقاتها مع شبه جزيرة تايوان،  فقد جاءت هذه المسألة بشكلٍ واضح  وصريح في الإستراتيجية، وهو ما يعني أنّ هناك ثمة تبادل أدوار بين الولايات المتحدة الأمريكية وحلفائها في أوروبا وتحديداً ألمانيا الاتحادية  فيما يتعلق بهذه المسألة.
  • ثالثاً: تحاول الإستراتيجية إعادة بناء الاتحاد الأوروبي من جديد، فقد بدا واضحاً أن ألمانيا الاتحادية تريد قيادة عملية إعادة بناء منطقة اليورو استراتيجياً، وذلك عبر الحدّ من الاعتماد على الخارج أياً كان في تأمين مصادر الطاقة بمختلف أنواعها وسلاسل توريد الغذاء، حتى لا يمكن استخدامها بأي شكلٍ من الأشكال في الضغط والتأثير في الموقف الأوروبي بشكلٍ عام ، كما حدث بعد اندلاع الحرب الروسية – الأوكرانية.
  • رابعاً: تؤكد إستراتيجية الأمن القومي الألماني عدم فاعلية أدوات الضغط الاقتصادية التي تستخدمها الصين ضد شركائها في العالم وتحديداً الأوروبيين وغير الأوروبيين معتبرةً إياها أنها تستغل تباطؤ الاقتصاد العالمي عموماً والأوروبي خصوصاً. وتوضّح الوثيقة في أكثر من جانب أنّ ألمانيا الاتحادية تسعى إلى التخلّص من قيود السيطرة عليها، والاقتصادية منها على وجه التحديد، وهو ما يفسر ما تضمنته الخطة الإستراتيجية بأنّ ألمانيا الاتحادية تسعى إلى بناء علاقات اقتصادية متينة و (أكثر عدلاً) . كما تبين وثيقة  الخطة الإستراتيجية أنّ ألمانيا سوف تواجه الأنشطة الصينية التي (تهدّد أمنها)، ما يعني أن القيادة الألمانية لا تستبعد الصدام مع الصين بمراحله التدريجية.
  • خامساً: تسعى الإستراتيجية الألمانية بكل ما تملك من قدرات إلى تفكيك بناء معسكر شرقي ركيزته قارة آسيا، فقد تناولت  الوثيقة بشيء من التفصيل ما سمّته ( التنافس النظامي) مع القوى الآسيوية الصاعدة، وبشكلٍ خاص الصين ، والحدّ من مخاطر التبعية الاقتصادية لها.

وأخيراً، توضح إستراتيجية الأمن القومي الألماني أنّ هدفها هو الإسهام في بناء النظام الدولي المتعدّد الأقطاب وفق القيم والمبادئ الغربية، بحيث تكون فيه دول الاتحاد الأوروبي كتلة واحدة وقوة عظمى في العالم ، ذات تأثير اقتصادي وسياسي  وأمني وأيضاً عسكري في المستقبل، خاصةً  الحرب الروسية – الأوكرانية كشفت عن فقدان أوروبا بشكلٍ عام، وألمانيا الاتحادية بشكلٍ خاص، مقومات قوتها وتأثيرها الاستراتيجي، سواء على المستوى الاقتصادي أو العسكري الاستراتيجي، ما بدا درساً تحاول القيادة الألمانية الاستفادة منه وعدم تكراره مرة أخرى لكي لا يكون هناك أي خطر .

المفارقة في هذا السياق  أنه بينما تبقى العلاقات الأمريكية – الصينية تتراوح بين  التهدئة والتصعيد، والتناوب بينهما، جاءت الإستراتيجية الألمانية الأولى تجاه الصين لتضفي طابعاً (صراعياً) حاداً على العلاقات الأوروبية – الصينية، وترفد أنصار (الحرب الباردة الجديدة) برافدٍ جديد وتدفعه دفعاً إلى مآلات أخرى . ويبدو أنه توزيع أدوار أو تنسيق  كبير ومحكم بين الولايات المتحدة  الأمريكية وحلفائها الأوروبيين وغيرهم فيما يتعلق بمواجهة تنامي الصعود الصيني  المتسارع في السياسة العالمية.