مجلة البعث الأسبوعية

أن تكون أباً مثالياً في عالم مثالي ومع أطفال مثاليين.. رغبة محكومة بالفشل

فرط الأبوة والأمومة قد يتسبب باضطرابات نفسية لدى الطفل وينعكس سلباً على أدائه

“البعث الأسبوعية” ــ لينا عدرا

يمكن تعريف مفهوم فرط التربية على أنه إظهار الاهتمام الشديد بالطفل، وتحديد أهداف بعيدة المنال له، ضمن جدول زمني مثقل في بعض الأحيان، إلى درجة التحكم بكل إيماءاته ومستقبله. وتؤدي هذه الحماية المفرطة، وهي مصدر للتوتر، إلى تثبيط تعلم الأطفال على الاستقلالية.

 

أنموذج تعليمي جديد

خلال السنوات الأخيرة من القرن العشرين، تطورت حالة الطفولة بشكل كبير. وتم استبدال توفير الدعم الأكثر شمولاً، والضروري للنمو السليم للأصغر سناً، في بعض البيوت، بالاهتمام المفرط. وقد جاء مفهوم الأبوة، والأمومة المفرطة، من الولايات المتحدة، حيث نمت عبادة معينة للنجاح الفردي إلى حد دفع الأسر، التي لديها الوسائل، إلى التفكير في تعليم أطفالها وفق أأنموذج الكمال الاجتماعي والمهني.. لقد انتقلنا من إنجاب أطفال ينبغي عدم رؤيتهم وعدم سماعهم ولا يلقون إلا القليل من الاهتمام، إلى إنجاب أطفال مذبح نعبدهم.

تطور فرط الأبوة والأمومة كنتيجة لأأنموذج تعليمي يظهر بشكل رئيسي في المجتمعات الغنية، حيث تسود التنافسية وتنتقل إلى مجال الأبوة والأمومة، وحيث يجد الآباء أنفسهم منغمسين في سباق بهدف التأكد من نجاح أطفالهم في الحياة. إنهم يحجزون مكاناً في أفضل روضة أطفال (قبل ولادة الطفل)، وأفضل جامعة، وأفضل ناد؛ ويشمل ذلك تنمية الطفولة المبكرة مع قدر زائد من الأنشطة اللاصفية، وجدول زمني بدون وقت فراغ. هنا.. لا يوجد أي تسامح مع المعلمين الذين يجرؤون على التساؤل عن مدى روعة الطفل. ومن الطبيعي أيضاً تحميلهم بالكتب والأجهزة الإلكترونية والألعاب..

يعتمد هذا الأنموذج في تربية الأطفال على الاهتمام المستمر والتوقعات غير المعقولة منهم للقيام بالدراسة وتحقيق الإنجاز، وهو بالتأكيد ليس الأنموذج الأفضل للنمو النفسي والعاطفي الصحي لهم.

 

عبادة الأداء

ويشكل فرط الأبوة والأمومة ضغطاً مفرطاً على الأبوة والأمومة، وفي المحصلة الأخيرة على الطفل وأدائه. وهو يأتي، أساساً، من نية حسنة جداً: أن تكون والداً عالي الأداء. لكن الفائض هو الرغبة في أن تكون أباً مثالياً، في عالم مثالي ومع أطفال مثاليين. وهذا الهدف محكوم عليه بالفشل، وهو ناقل للضغط المفرط الذي نمارسه على أنفسنا وعلى العمل التربوي.

وفرط الأبوة والأمومة ليس مرضا، بل ميل يتجلى فقط في المجتمعات الفردية التي تمارس ضغطاً تعليمياً على الأسر الحديثة الصغيرة، على عكس العائلات الجذعية حيث كان يتوزع الضغط التربوي على أصول الأسرة وأجدادها وكبار السن. وهناك نجد قدراً أقل بكثير من فرط التربية، حتى عندما يكون التعليم شأن مجتمع بأكمله، كما هي الحال في بعض البلدان الأفريقية حيث يمكن لقرية بأكملها أن تساعد في تعليم الطفل. وبالتالي فإن الظاهرة مرتبطة بالفردية، وبعبادة الأداء، وقد اشتدت هذه الظاهرة لأننا في مجتمع متدن حيث سيكون لأطفالنا بالتأكيد مكانة أقل من مكانتنا. وتتفاقم التربية المفرطة اليوم مع الأوبئة والحرب وشائعات الحرب، وما إلى ذلك. فنحن ندرك أن عالمنا ليس مثالياً، وكل هذا يجعل التعايش مع فرط الأبوة والأمومة أكثر صعوبة مما هو عليه في الأوقات العادية.

ويضفي البعض نوعاً من الشرعية على المراقبة المستمرة للطفل من خلال الأجهزة الأمنية.. وتلك

هي “المروحيات الأم”. ولكن ذلك مستحيل في الواقع، حيث نواجه تناقضاً صارخاً: “أطفال المنزل”، الذين يبقون في غرفهم، حتى خلال فترة المراهقة، متكيفين مع شاشاتهم، وفي مساحات افتراضية لا يمكن السيطرة عليها أيضاً.

 

آباء منغمسون

يمكننا تحديد سمات الوالدين المختلفة التي تظهر في ممارستهم للتربية المفرطة، على النحو التالي:

  • يقوم بعض الآباء بمراقبة حياة أبنائهم والإشراف عليها بشكل مستمر. هم آباء طائرات الهليكوبتر. وتقوم “الطائرات بدون طيار” (الوالدان) بمراقبة أطفالها باستمرار، وقد ساعدت على ذلك التقنيات الجديدة (من الهواتف المحمولة إلى إشارات GPS “للأطفال المميزين”). ويدور “الآباء المروحيون” حول أطفالهم الصغار، وهم على استعداد لتوقع أدنى احتياجاتهم.
  • يقوم آباء آخرون بتمهيد الطريق لأطفالهم، وإزالة أي عقبات يمكن تشكل حجر عثرة أمامهم. هؤلاء هم “الآباء الجرافات” الذين يأملون تحويل مسار حياة أطفالهم إلى نهر طويل هادئ. وغالباً ما تؤدي هذه الأساليب إلى نتائج عكسية فيما يتعلق بنقطة أساسية في التعليم: وهي اكتساب الاستقلالية.
  • هناك آباء يقضون حياتهم في نقل أطفالهم من نشاط خارج المنهاج إلى آخر، ويسرعون في ملء جدولهم الزمني. هؤلاء هم الآباء السائقون.
  • بعض الآباء لا يسمحون لأطفالهم بالملل أو اللعب.
  • يمهد آباء آخرون الطريق الأمثل لأطفالهم حتى لا يرتكبوا أي خطأ. هؤلاء هم آباء كاسحة الثلوج.
  • هناك آباء يطاردون أطفالهم في الحديقة مع وجبة خفيفة حتى ينتهوا منها. هؤلاء هم آباء الوجبات الخفيفة.
  • أولئك الذين يسعون جاهدين لضمان عدم تعرض أطفالهم لأصغر الخدوش، أو الاتساخ، أو الإصابة بنزلات البرد. هؤلاء الآباء المفرطون في الحماية.

إن فرط الأبوة والأمومة أمر مرهق بالنسبة للأطفال، لأنه يعني جداول مزدحمة بالنسبة للوالدين، لأنهم هم الذين ينقلونهم من نشاط إلى آخر، وهم يتحدثون كثيراً مع المعلمين، ويشرفون على واجبات أبنائهم المدرسية، وحتى القيام بها معهم، ويخططون لجداولهم، حتى مع أصدقائهم.

ونحن نتحدث هنا عن آباء يعانون من مستوى عال من التوتر وكذلك عن أطفال متوترين تتطور لديهم الأطفال طبيعة متطلبة ذاتياً وقليلة التسامح مع الإحباط، ولا يُسمح لهم بالفشل ومطالبون بضرورة التفوق المستمر.

ومن ناحية أخرى، يظهر بعض الآباء شعور بعدم الأمان. فهناك وفرة زائدة في الأشياء والتجارب التي يحتاجها الطفل، وهذا يزيد من التوتر. ويشكك الآباء دائماً فيما هو الأفضل لأطفالهم ويقضون حياتهم في البحث عن التجارب والفرص والمنهجيات وإغراقهم، وكذلك عن الأشياء المادية والتكنولوجيا الجديدة.

 

إرهاق وخيبة أمل متبادلة

بهذه السلوكية، نشأت التربية المفرطة على أنها انحراف لأنموذج التعليم الذي شجع على زيادة الرعاية والاهتمام بالأطفال، حيث يمطر الآباء أطفالهم بالاهتمام والثناء بأكثر مما هو مطلوب، دون أن يعلموا أن هذا يحد من استقلالهم وحريتهم وتطوير استقلاليتهم.

ويحاول الآباء المفرطون ضمان النجاح المدرسي لأطفالهم والتأكيد على كل شيء صغير يمكن أن يحدث لهم، ليصبح لديهم أطفال مفرطون في التحفيز، ومحميون أكثر من اللازم، ولا يشعرون بالأمن والثقة.

ونرى أخيراً آباء منشغلين، وآخرين مضغوطين، وآخرين يغفلون كثيراً عن تعليم أبنائهم، ويفوضون هذه المهمة إلى وسائل الإعلام، أو المدرسة، أو إن أمكن، إلى المربية. ومع بدء المعاناة تظهر على كلا الجانبين مشكلة (بالنسبة للآباء و/أو الأطفال) الشعور بخيبة الأمل، فالضغط على عملية التعلم والنتائج المدرسية قد يؤدي إلى الإضرار بصحة الطفل (انخفاض احترام الذات، والتوتر، والاكتئاب، وما إلى ذلك)، وخطر نقص الوالدية، خاصة بين الآباء الأكثر ضعفاً (“بما أنني لا أستطيع القيام بذلك، سأنسحب”)، كذلك خطر الإرهاق والإرهاق المرتبط بالسعي لتحقيق أهداف غير واقعية، لتتحول الرابطة العاطفية إلى علاقة مربحة (الوقت يجب أن يكون بناء، تربويا، يستخدم بطريقة تؤدي إلى تطوير هذه المهارة أو تلك وتوفير الوقت في التعلم المدرسي)، ولتتدهور العلاقة بين الوالدين والطفل (عدم فهم الآباء أن الأطفال يمكنهم اتخاذ القرارات بأنفسهم دون أن يكون ذلك ضد الوالدين).

 

الحق في الخطأ

بالنسبة للآباء، فإن “التربية المفرطة” هي أيضاً ناقل للتوتر والإرهاق، وبشكل عام، لسوء الحال. إن جعل طفلك مثالياً هو هدف طوباوي، فالخطأ جزء من الحياة، ويجب على الجميع مواجهته بين وقت أو آخر. والتركيز بشكل كامل على هدف قد لا يمكن تحقيقه يمكن أن يؤدي إلى اضطرابات نفسية مثل الإرهاق. وغالباً ما يوصف الأطفال بأنهم “إسفنجات” عاطفية، وتؤثر حالة الصحة العقلية لوالديهم بشكل مباشر على بنيتهم.

إن الخروج من هذه الدوامة السلبية يتطلب اتخاذ خطوة جانبية. ومن المهم أن تدرك أن كونك أحد الوالدين يعني أيضاً أن لك الحق في ارتكاب الأخطاء. والشيء المهم هو أن تكون لديك الثقة في التعليم الذي سيتم تقديمه لطفلك. كما من المهم أيضاً التحدث عن الأمر مع وطرح الأسئلة، فالهدف هو إعداد الطفل بشكل أفضل لمواجهة الأوقات الصعبة في بعض الأحيان، ولكن أيضاً تجربة الأفراح والنجاحات.. إن تعليم الطفل “هو إعلامه استباقياً بما يمكن لتجربته أن تثبته له”. إن منعه من عيش تجاربه يعني منحه تعليماً غير كامل، وعلى حساب رغبة الوالدين نفسيهما: أي أن نسمح لصغارنا أن يكونوا على طبيعتهم.

 

الخروج من فرط الأبوة والأمومة

تخاطر الحماية المفرطة من العالم الخارجي بإبادة فضول الطفل وحاجته إلى الاستقلالية، وقد يجد نفسه عاجزاً عندما يضطر إلى مواجهة الآخرين. وتسبب هذه الحماية المفرطة أيضاً مخاوف وقلقاً لدى الطفل الصغير. إن توقع كل أشكال الخطر يمنعه من تعلم كيفية إدارة الصراعات والأحداث غير المتوقعة، بينما يجعل الطفل يعتقد دون وعي أنه غير قادر، ولن يتمكن أبداً من إدارة أموره بمفرده.

وأول شيء عليك القيام به هو الاسترخاء للخروج من دوامة الهبوط. كآباء، يمكننا التنفس والاسترخاء. فالأطفال لا يحتاجون إلى آباء مثاليين، بل يحتاجون إلى آباء هادئين وسعداء.

يجب على الآباء منح أطفالهم وقتاً للعب، حتى يتمكنوا من تدريب أنفسهم وتعلم كيفية إدارة وقتهم. ويعد اللعب أمراً حيوياً لنموهم، ولكن مع وجود الكثير من الأنشطة والضغط، لا يتوفر لديهم الوقت للعب والملل والتعلم.

 

نصائح

في قاعدة التربية المفرطة، هناك نية إيجابية وعالية الجودة، وهي أن الآباء يريدون القيام بعمل جيد من منطلق حبهم لأطفالهم. وعليه فإن مفتاح الخروج هو إزالة الضغوط والمخاوف مع الحفاظ على النية إيجابية. ويمكن القيام بذلك من خلال الوعي بالمعاناة والحل الذي يرتاح له الجميع والذي يمكن أن يقلل من هذه المعاناة على كلا الجانبين مع تلبية احتياجات الوالدين (الأمن) والأطفال (الاستقلالية والحرية). وهناك سؤال يمكن أن يسهل هذا الوعي: “كيف يمكن لطفل أو مراهق أن ينظر إلى بيئة (عائلته) على أنها غير صالحة للعيش عندما تكون هذه البيئة مشبعة بالنوايا الطيبة؟”

للإججابة على هذا السؤال، يتعين علينا النظر إلى ما هو أبعد من القضايا الفردية (“التخلي”) ولكن فهم هذا الاتجاه من وجهة نظر مجتمعية:

  • انتبه إلى الأمر المزدوج المتناقض الذي يثقل كاهل الوالدين (أن يكونا هادئين وفي نفس الوقت تسقى بالمعلومات والتوصيات المؤلمة).
  • طلب الدعم لإعادة إنشاء نوع من “القرية” (الأصدقاء، العائلة، المجتمع، المنتديات الافتراضية.. إلخ).
  • شارك وناقش مع الآباء الآخرين لتدرك أنه لا يوجد شيء اسمه والد مثالي.
  • منح الأطفال الحرية في أن يصبحوا ما هم عليه.
  • علينا أن ندرك أن النجاح لن يكون مرغوباً ولن يكون ممكن التحقيق وسط الضغوط في جميع المراحل (الحضانة، المدرسة.. إلخ).