دراساتصحيفة البعث

“بريكس”.. بداية نظام عالمي غير هرمي

عناية ناصر

انعقدت قمة مجموعة السبع في اليابان، والتي جمعت رؤساء كندا، والاتحاد الأوروبي، وفرنسا، وألمانيا، وإيطاليا، واليابان، والمملكة المتحدة. وفي الوقت نفسه، عقد أعضاء البريكس مشاورات في جنوب أفريقيا حول القضايا ذات الاهتمام المشترك والعالمي.

إن نظرة سريعة على التركيبة الجيوسياسية والجيوستراتيجية ومدى توسع دول البريكس، التي تضم البرازيل وروسيا والهند والصين وجنوب أفريقيا، تكشف عن زيادة في القوة الجيوسياسية والنفوذ في هذه المجموعة، التي لديها القدرة على تحدي النظام المالي والآليات الأمنية التي يقودها الغرب، فالعامل الرئيسي في تعزيز التضامن بين أعضاء البريكس هو التصور بأن الولايات المتحدة أصبحت غير متسقة وغير موثوقة في سياستها الخارجية.

وينبع انعدام الثقة هذا من سوء استخدام الولايات المتحدة المستمر لآليات الضغط الدولية، والتي كانت تهدف من وراء استخدامها إلى معاقبة البلدان التي لديها نزاعات معها، والآن تستخدم مجموعة السبع كأداة للضغط الاقتصادي لدعم وتبرير تصرفاتها في مناطق أخرى، ولا يتم قبول الدول كحلفاء للولايات المتحدة إلا إذا أصبحت أدوات لحروبها الاقتصادية أو العسكرية ضد دول أخرى. والمسألة الأخرى هي أن الولايات المتحدة وحلفائها يستفيدون من “النظام القائم على القواعد” على حساب الآخرين، حيث يشكك العديد من القادة، وخاصة في الصين وروسيا، في الدور القيادي الذي تلعبه أمريكا.

وفي هذا المجال قال مبعوث أفريقيا إلى البريكس، أنيل سوكلال، لمجلة ” نيوزويك” إن أكثر من 20 دولة ترغب في الانضمام إلى البريكس، والتي تهدف إلى إنشاء آلية عالمية شاملة وتنافسية.

عولمة على طريقة البريكس

تتحدى مجموعة البريكس النموذج السائد للعولمة الذي تحركه المصالح والمعايير الأمريكية، وهذا النوع من العولمة يؤدي إلى تآكل هوية وقيم الدول الأخرى ويجبرها على التوافق مع النموذج الأمريكي وأجندته الليبرالية. ويتجلى هذا في استعداد الولايات المتحدة لقبول طالبان كممثل شرعي وديمقراطي للشعب الأفغاني عندما يناسب ذلك مصالحها. بينما في المقابل تتصور مجموعة البريكس مرحلة جديدة من العولمة تقوم على تشكيل تحالفات متنوعة تحترم اختلافات ومصالح جميع الأطراف . وبدلاً من فرض قيم الآخر واستغلال موارده، كما فعلت الولايات المتحدة في مشروعها للعولمة، تهدف مجموعة البريكس إلى إنشاء نظام يعزز الرفاهية والتعاون بين جميع الأعضاء، وسيركز هذا النظام على مجالات مثل التعافي الاقتصادي بعد الوباء، والابتكار التكنولوجي، والتنمية المستدامة، والتبادل البشري، إذ من شأن هذه المجالات أن تحل محل منطق المنافسة الصارم الذي يميز الوضع الحالي.

بداية النهاية لهيمنة الدولار

تتلخص إحدى الخطوات الحاسمة لتحرير الاقتصاد العالمي من النفوذ الأمريكي في تقليل الاعتماد على الدولار كوسيلة للتبادل، ولذلك فإن المرحلة الجديدة من العولمة تعترف وتتبنى عالماً متعدد الأقطاب يحتاج إلى منع تكرار أخطاء سيادة الدولار والعقوبات التي استخدمتها الولايات المتحدة كأدوات للإكراه والعقاب، وليس كمصادر للتكامل الاقتصادي العالمي. وفي هذا السياق، تهدف البريكس إلى خلق نمو اقتصادي متوازن وشامل يمكن أن يفيد جميع البلدان، ومن الممكن تسهيل ذلك من خلال إنشاء بنك تنمية ضمن مجموعة البريكس، على غرار بنك التنمية الآسيوي في الصين، وبوسع بنك التنمية أن يوفر خيارات أكثر وأفضل لتمويل التنمية لبلدان الجنوب العالمي، ومن الممكن استخدام هذه الخيارات لبناء البنية التحتية وتحسينها بدلاً من استيراد واستهلاك السلع وتعزيز النزعة الاستهلاكية، ومن الممكن أن يؤدي تحسين البنية التحتية إلى زيادة التبادلات التجارية متعددة الأطراف بين أعضاء البريكس والدول المستقلة في الجنوب العالمي.

يشكل توسيع مجموعة البريكس ككتلة قوة أفقية تعارض مجموعة السبع بقيادة الولايات المتحدة تطوراً ملحوظاً، حيث كانت كل من إيران والإمارات والسعودية ومصر والأرجنتين وإثيوبيا قد انضموا إلى بريكس، وستبدأ عضويتهم في الأول من كانون الثاني 2024. كما أبدت العديد من الدول مثل بيلاروسيا وتركيا وغيرهما اهتمامها بالانضمام إلى مجموعة البريكس للتعامل مع الصعوبات التي تواجهها مع الولايات المتحدة ونظامها، حيث تنظر هذه الدول إلى آليات البريكس كحل لبعض مشاكلها مع الولايات المتحدة ونظامها النابع من العقلية الأمريكية. بالنسبة للدول التي تخضع لعقوبات مثل إيران وروسيا وبيلاروسيا، وكذلك الدول التي تخوض حرباً اقتصادية مع الغرب مثل الصين، بسبب العلاقة المعقدة التي تربطها بالغرب، فإن وجود بنك تنمية يمكن أن يكون مصدراً محتملاً لتعزيز تضامن الجنوب العالمي، وكسر الحلقة المفرغة للعقوبات التي تعيق تنميتها.  ومن الممكن أن يشكل تقليص دور الدولار في العلاقات بين الصين وروسيا نموذجاً لانهيار النظام القسري الأمريكي.

وبالفعل، عززت الصين وروسيا تبادلاتهما التجارية بشكل كبير في العام الماضي. على سبيل المثال، جاءت 40% من واردات روسيا من الصين، وذهب 30% من صادراتها إلى الصين. وبينما لم يكن الشعب الروسي على دراية باليوان الصيني من قبل، أصبح اليوم 15% من احتياطيات البنك المركزي الروسي من النقد الأجنبي موجودة باليوان، وظهر 33% من الطلب بين الروس على شراء اليوان . نتيجة لذلك، إلى جانب إلغاء الدولرة في الاقتصاد الروسي، يحدث أيضاً نوع من الاعتماد الاقتصادي لروسيا على الصين، وهذا يسعد الصين التي لا تريد اتخاذ موقف واضح بشأن أوكرانيا، لأنه يجعل روسيا، القوة العسكرية العالمية التي تشترك في حدودها مع الصين، أكثر اعتماداً اقتصادياً على بكين.

في أعقاب الأزمة الاقتصادية، ظهر اعتقاد جديد يتحدى الأمريكيين مفاده إن ما سوقته أمريكا على أنه في خدمة مصالح الدول الخاصة كان في الواقع  في خدمة مصالحها القصوى، ولذلك فقد حان الوقت للبحث عن مصالح الدول الخاصة.

بشكل عام، إن إنشاء آليات مالية عادلة وتنموية، ونظام القوة الأفقي بدلاً من نظام القوة الهرمي، والترتيبات التعددية مع الحفاظ على الوحدة في التقدم والسلام المشترك، يمكن أن يكون نموذجاً كلياً للعلاقات الدولية الجديدة تحت شعار بريكس عالمية.