مجلة البعث الأسبوعية

التهجير إلى سيناء والانفصال الصهيو-غربي عن الواقع

البعث الأسبوعية – بشار محي الدين المحمد   

تنتشر مؤخراً سيناريوهات للعدو الإسرائيلي بشكل مكثف، وهي ليست بجديدة حول تهجير أهالي قطاع غزة بالكامل إلى سيناء المصرية، بشكل مترافق مع حصار مطبق وزيادة في عمليات القصف والتدمير للمنازل، وقطع المياه والكهرباء والوقود والغذاء والدواء.

ومع ذلك نلمس تمسكاً من حكومة الإحتلال الأشدّ تطرفاً بمشروعها بهدف إحراج مصر وإدخالها في خط المواجهة وبهدف تعقيد الصراع في المنطقة، كما أن تحليل ما تفكر به ما تسمى “النخبة الإسرائيلية” يبين حجم الكابوس والأرق الذي تسببه لهم غزة، التي قال عنها يوماً رئيس وزراء الكيان الأسبق إسحق رابين: “أتمنى أن أستيقظ يوماً من النوم فأرى غزة وقد ابتلعها البحر”. وهذا الموقف العدائي الشديد له مبرراته فغزّة منطقة صغيرة لكنها خزان للكثافة البشرية، والإرادة الصلبة للمقاومة، والتكتيك العالي المستوى لفصائلها.

إن تحقيق سيناريو تفريغ غزة من أهلها يعني- إن تحقق- تصفية القضية الفلسطينية، ولأنه سيعني تكراره في أي منطقة تمثل قلقلاً للكيان الإسرائيلي، وهذا يذكرنا بالمشروع الفاشل الذي سبق أن قدمه الكيان لأهالي الضفة الغربية عبر تقديم مغريات لهم بترك منازلهم مقابل تأمين هجرتهم نحو أمريكا اللاتينية لبناء حياة جديدة لهم هناك. ورغم الفشل فإن الفكرة وسيناريوهاتها ما زالت قائمة في ذهنية هذا العدو، وتتركز في تهجير الشعب الفلسطيني إلى مصر ولبنان والأردن وإبقاء اليهود فقط على الأرض المحتلة، لكن المشروع مرفوض سواء من مصر أو الأردن أو لبنان، فهم يقبلون الشعب الفلسطيني كلاجئين، لكنهم لن يقبلوا بأي عمل يؤدي إلى إلغاء القضية الفلسطينية، أو يخل بسيادتهم الوطنية أو يسبب أي إشكالات وإخلالات في التوازن الديمغرافي لدولهم، كما نذكّر بأن أهالي غزة لا يقبلون أساساً وجميع الفلسطينيين هذه الحلول المشككة في وطنيتهم وانتمائهم لأرضهم.

وفي ظلّ سياسة العدو الهادفة إلى تحويل غزة إلى مكان لا حياة فيه، فإن مصر لن تقف مكتوفة الأيدي عبر تقديم المساعدات وإدخال الفرق الطبية، كما يتعين على الدول العربية والأمم المتحدة الضغط على المجتمع الدولي في هذا الصدد لتأمين كل ما يمكن أن يجعل أهالي غزة مستمرين في تمسكهم بأرضهم ومجابهة محاولات تفريغها من سكانها.

كما يجب الضغط عربياً ودولياً لتفعيل دور السلطة الفلسطينية التي ما زالت تتعرض لمحاولات تعطيل دورها من قبل الكيان الإسرائيلي الذي يمنع عنها حتى اللحظة وصول الموارد المالية، ويخترق أراضي الحكم الذاتي الفلسطيني ويتدخل في شؤونها، ويكرر اعتداءاته على الأراضي الفلسطينية. لكن المرحلة الآن شهدت تطوراً، وأيدت السلطة حق الفصائل في المقاومة والدفاع عن النفس وهذا سيشكل نواة لوحدة بين كل القوى الفلسطينية ويجعل من جميع قواها موجودة ومؤثرة على الأرض بنفس القوة، وسيخرج السلطة الفلسطينية من قيود الاحتلال في بقائها فكرة نظرية تسيّر بعض الأمور اليومية والمعيشية فقط، لتمثل كل القوى والشعب الفلسطيني.

إن الفصائل وبعد نجاحها في خوض عملية “طوفان الأقصى” عززت المخاوف بصورة أكبر حول مسألة بقاء الكيان الصهيوني، الموجودة دائماً في دوائر الفكر الإسرائيلي، وفي السينما الإسرائيلية التي حذّرت من الوحدة العربية وخطرها في سحق دولتهم، كما أن التنبؤ بنهاية دولة الكيان موجود في الفكر الديني لليهود وخبراتهم التاريخية، التي تؤكد أنه لم يعمر كيان لليهود لأكثر من 80 سنة. مع كل هذه الافتراضات يبقى العلم هو الأقوى فهو يؤكد أن “إسرائيل” ظاهرة استعمارية، والظاهرة هذه مهما طال بها الزمن لا بد وأن تنتهي إلى الزول، وهي حقيقة تتجسد وتتكرر، فبعد الحرب العالمية الثانية انتهت جميع حالات الاستعمار سواء عبر النضال المسلح للشعوب، أو حتى بشكل سلمي وسياسي يجبر الرأي العام على الاعتراف بحقوق الشعوب، كما حدث في حالة جنوب إفريقيا، التي اعتنقت مبدأ صوت لكل مواطن حتى مثلت أغلبية السلطة واستعادتها من المستعمرين وأعلنت استقلالها. لكن “إسرائيل” في الوقت نفسه تعتنق غرس فكرة “هذا الجيل هو آخر جيل يعيش لليهود”، وذلك بهدف استعطاف الرأي العام العالمي من جهة، وتبرير كل ممارساتها الوحشية من جهة أخرى، مع تصوير الطرف الآخر على أنه “يقاتلها لأجل القتال ولرغبته بالموت دون هدف”، وهذا يذكرنا بمقولة رئيسة وزراء الكيان الإسرائيلي السابقة غولدامائير: “يحق لليهود أن يفعلوا أي شيء بعد ما فعله بهم هتلر في الهولوكوست”.

إن “إسرائيل” تنتهج الآن أبشع سياسة للعزل، كسياسة العزل النموذجية التي انتهجها الأوروبيون ضدّ النازية رغم خسارتها للحرب، أو التي اتبعها الأمريكيون ضدّ هيروشيما في اليابان رغم خسارتها أيضاً للحرب، حيث يحاولون تكرار السيناريو من خلال الترويج لأفكار مغلوطة مثل أن المقاومة الفلسطينية “تقتل الأطفال وتغتصب النساء” ودون تقديم أي دليل أو حتى تقديم صور لضحايا الأطفال الفلسطينيين الذين تم قصفهم من قبل طيرانها وصواريخها، وفي نفس الوقت هم من يقتلون الأطفال ويأسرون النساء ويعتدون على الأسرى في السجون ويتسببون بوفاتهم عبر الإهمال الطبي، بل يعملون على تصفية شبان الشعب الفلسطيني الأعزل في الشوارع وأمام الكاميرات وبلا سبب ودون محاكمة مع منع سيارة الإسعاف من إسعاف الضحية التي ينظرون إليها على أنها “صيد”. فالمهم لديهم هو الرأي العام الغربي المحابي لهم مهما اقترفوا من جرائم بحق الشعب الفلسطيني والإنسانية، ذلك الرأي الأعمى الذي قرر أن يطالب شركة محرك البحث “غوغل” بعدم إظهار أي محتوى يتم طلبه حول غزة، وهذا يعكس كم من التستر يمارسه الإتحاد الأوروبي على جرائم هذا المحتل. هذا المحتل هو أول محتل في التاريخ يقتل ويطغى ومن ثم يصور نفسه على أنه الضحية لطالما أجاد ذلك ولطالما حظي بالتصفيق الغربي لأفعاله، وذلك بعد منحه المبررات لجرائمه، وهذا لا يختلف كثيراً عن تلك الأفلام الأمريكية التي تحاول استدرار عطف المشاهد لـ”البطل” الأمريكي. الجندي المحتل الذي يقتل مجموعة من الملثمين على أنهم إرهابيين، مع تناسي حقيقة أساسية تكمن في أن هؤلاء الذين تم إلباسهم دور شخصية مسطحة يدافعون عن أرضهم وشعبهم واستقلال سيادتهم، فيقتلهم “البطل” ذو الشخصية “المركبة سينمائياً” بدم بارد وسط تصفيق الجمهور الذي وللأسف تم تسطيح فكره بفعل ماكينة الإعلام المعولم الصهيو-غربي.

لكن الآن العرب أصبح يهمهم الرأي العام العربي والإسلامي وإقناعه وتوحيد صفوفه تجاه القضايا العربية الوجودية، ولفت النظر إلى تصرفات الغرب غير المتوازنة، فالغرب أيضاً جلب 30 دولة وحاملة طائرات أمريكية إلى المنطقة، وهذا السلوك لا يتناسب مع “خطر” مدينة صغيرة مثل غزة، وهذا يؤكد أن الهدف هو أكبر من غزة ويعني وجود نية أمريكية غربية في الاعتداء على دول المنطقة وإعادة فرض مشاريعهم فيها إبان إفلاسهم أمام عظمة المشاريع البديلة للعالم متعدد الأقطاب.

ومهما يجري الآن فمفاجآت المقاومة لم تنتهِ بعد، وكما قال قائد الجيش الروسي السابق: إن الغرب وقع في مصيدة كبيرة جداً. هذه هي نهاية أمريكا في الشرق الأوسط، مشيراً إلى وجود أنفاق في غزة إن دخلها جيش الاحتلال فلن يخرج منها بآلياته ودباباته.

إن “إسرائيل” الآن تعاني خطراً وجودياً بفضل جنرالات قطع المياه و”الديمقراطية” المزعومة، بعد دفع حليفتهم أمريكا مليارات الدولارات لإشعال “الربيع العربي” بهدف سحق الروح المعنوية للشعوب العربية وتجويعها وتدجينها، لكن مشروعهم فشل على يد سورية وكل قوى المقاومة التي سحقت المشروع الصهيو-أمريكي، على يد كل عربي شريف اعتبر نفسه مشروع شهادة فداء لاستقلال وكرامة بلاده. ونحن الآن نتحضر بعد صفعة المقاومة الكبرى لهذا الكيان للإطاحة العربية بـ”السلام الإبراهيمي” في المنطقة الذي سيكسر شوكة الكيان والتدخل الأمريكي في المنطقة بشكل غير مسبوق.