دراساتصحيفة البعث

آلة الحرب الغربية في حالة ذعر

عناية ناصر

وضع عجز الغرب الجماعي عن إجبار روسيا على الاستسلام في أوكرانيا، بالإضافة إلى التغيير السريع في الرأي العالمي حول الغرب في سياق دعم الأخير للحرب الوحشية التي تشنّها “إسرائيل” على سكان غزة، ما يسمّى العالم “الليبرالي الديمقراطي” في حالة ذعر. وقال البيت الأبيض في هذا السياق: إن الأموال المخصّصة لتمويل أوكرانيا حتى عام 2024 ستنفد بالفعل ما لم يمنح الكونغرس الأمريكي الموافقة على المزيد من التمويل. وقد دفع هذا آلة الحرب الغربية التي تقودها الولايات المتحدة بشكل رئيسي إلى توقع هزيمة محتملة. وفي هذا الإطار قال مسؤول عسكري أمريكي لشبكة “CNN” مؤخراً: “ليس هناك ضمان للنجاح معنا، لكن من المؤكد أنهم سيفشلون من دوننا”، حيث تشير تقديرات المسؤولين الأمريكيين الآن إلى أنه دون الدعم العسكري ستسقط أوكرانيا بحلول صيف عام 2024. ولكن وفقاً للحسابات الغربية، فإن سقوط أوكرانيا لا يعني انتصار روسيا فحسب، بل يعني أيضاً انهياراً محتملاً لحلف شمال الأطلسي وانهيار النظام السياسي والاقتصادي والأمني العالمي الذي يهيمن عليه الغرب في نهاية المطاف.

وجاء في مقال نُشر مؤخراً في صحيفة “وول ستريت جورنال”، “الأمر الأكثر أهمية من ذلك هو أن نجاح روسيا في أوكرانيا من شأنه أن يزيد من التهديد الذي يواجهه الجناح الشرقي لحلف شمال الأطلسي، وخاصة دول البلطيق وبولندا. أما خارج أوروبا، فمن شأنه أن يشجّع حليفتي موسكو، إيران وكوريا الديمقراطية، ويوفر أنموذجاً للصين للحل العسكري للنزاع التايواني. وفي كل هذه الحالات، يمكن أن تجد القوات الأمريكية وقوات حلف شمال الأطلسي نفسها في خضم صراع عسكري من النوع الذي تخوضه أوكرانيا اليوم دون تدخل مباشر من حلف شمال الأطلسي.

ومثل هذه الاحتمالات تسبّب مشكلاتٍ خطيرة، حيث تدرس ألمانيا، على سبيل المثال، التخلّي عن القوة التطوعية والعودة إلى التجنيد الإجباري. وفي هذا الشأن قال جان كريستيان كاك، قائد البحرية الألمانية: “أعتقد أن ألمانيا تحتاج إلى أن تصبح أكثر مرونة في مثل هذه الأوقات وسيكون لديها مستوى أعلى من الوعي إذا اختلطت بالجنود”. هذا بالإضافة إلى أن الجيش الألماني أصغر من أن يتمكّن من الدفاع عن نفسه ضد أي تهديد؛ ومن هنا جاء التأكيد المتجدّد للتجنيد الإجباري.

لكن ألمانيا ليست حالة استثنائية، والواقع يعكس التطورات في بقية أوروبا، حيث تواجه المملكة المتحدة، المعروفة بامتلاكها واحدة من أفضل القوات المقاتلة في العالم، بعض المشكلات الأساسية. وذكرت قناة “سكاي نيوز” الإخبارية في وقت سابق من عام 2023 أن جنرالاً أمريكياً كبيراً “أخبر وزير الدفاع بن والاس سراً أن الجيش البريطاني لم يعُد يُنظر إليه على أنه قوة قتالية رفيعة المستوى”. وذكر أيضاً أن ذخيرة القوات المسلحة ستنفد في غضون أيام قليلة إذا تم استدعاؤها للقتال، وأن المملكة المتحدة تفتقر إلى القدرة على الدفاع عن أجوائها ضد الضربات الصاروخية والطائرات دون طيار التي تتعرّض لها أوكرانيا.

علاوة على ذلك، فإن الموقف العسكري الروسي في أوكرانيا لا يزال قوياً، ما يجعل من الصعوبة بمكان على الغرب توفير التمويل الكافي، كما تواجه إدارة بايدن تحدياتها الخاصة فيما يتعلق بزيادة التمويل لأوكرانيا. وفيما يتعلق بأوروبا، أظهر تقرير حديث أن التزامات التمويل التي تم التعهّد بها في آب عام 2023 انخفضت بنسبة 90% تقريباً مقارنة مع الفترة نفسها من العام الماضي. وهذا هو إرهاق الحرب الذي يتفاقم بسبب التصميم الروسي المستدام على تحقيق الأهداف من العملية الحربية في أوكرانيا. بالنسبة للغرب، يظل فلاديمير بوتين عنيداً، وكما أكد بوتين مؤخراً: “سوف يحل السلام عندما نحقق أهدافنا.. والآن دعونا نعود إلى هذه الأهداف، فهي لم تتغيّر. أودّ أن أذكركم كيف قمنا بصياغتها: نزع النازية، ونزع السلاح، ووضع أوكرانيا على الحياد”.

وفي حديثه من موقع قوة، ومع الأخذ في الاعتبار إرهاق الحرب في الغرب، قال بوتين كذلك: إن القوات الروسية “تعمل على تحسين موقعها على طول خط الاتصال بأكمله تقريباً. فجميعهم تقريباً يشاركون في القتال النشط. وموقع قواتنا يتحسّن على طول خط التماس بأكمله”. وفي هذه الحالة، لم ينقل بوتين أي أفكار للتوصل إلى تسوية مع الغرب بشأن أوكرانيا. ومن وجهة النظر الروسية، لن يكون من المنطقي عرض المفاوضات، وبالتالي تحويل الانتصارات التكتيكية الروسية إلى تسويات غير مستدامة.

من الواضح أن روسيا ليس لديها أي نية للتراجع عن انتصاراتها، ولهذا السبب يسود الذعر، وخاصة في أوروبا. وإذا استمرّت روسيا في الفوز وتوقف التمويل الأمريكي، فسوف تُترك أوروبا لتتدبّر أمرها بنفسها. ولم يقلق وزير الدفاع الألماني من التعبير عن هذا القلق عندما قال: إن الولايات المتحدة “بدأت تفقد اهتمامها بالشؤون الأوروبية، وإن التوترات الأمنية في المحيط الهادئ من المرجّح أن تجعل الاتحاد الأوروبي مضطراً إلى الدفاع عن نفسه”، مضيفاً: “يمكن الافتراض أن الولايات المتحدة ستكون أكثر انخراطاً في منطقة المحيط الهادئ في العقد المقبل ممّا هي عليه اليوم بغض النظر عمن سيصبح الرئيس المقبل”. وكان استنتاجه: “وهذا يعني أنه يتعيّن علينا نحن الأوروبيين أن نعمل على زيادة التزامنا بضمان الأمن في قارتنا”.

باختصار، بالنسبة للولايات المتحدة، إذا كانت الحرب في أوكرانيا تهدف إلى توحيد الغرب، بدأت تخلق تأثيراً معاكساً تماماً. هناك سبب قوي للغاية يدفع الولايات المتحدة إلى إعادة النظر في استراتيجيتها. ويمكن أن تسير إعادة النظر هذه في اتجاهين، أولاً، تستطيع الولايات المتحدة أن تنسحب من هوسها بتوسيع حلف شمال الأطلسي ليشمل أوكرانيا، وثانياً، تستطيع الولايات المتحدة أن تقوم بمحاولة أخيرة وتجعل أوكرانيا تقاتل لأطول فترة ممكنة، على أمل أن يؤدّي هذا إلى كسر روسيا. وتفضل إدارة بايدن الخيار الثاني، ولهذا السبب تضغط من أجل الحصول على حزمة مساعدات بقيمة 61 مليار دولار. ولكن هل سيسمح انتصار الجمهوريين بحدوث ذلك؟. إن فوز الجمهوريين لن ينهي الدعم لأوكرانيا فحسب، بل سيترك أوروبا أيضاً في حالة من الاضطراب التام، ومن الأوقات العصيبة المقبلة.