الصفحة الاخيرةحديث الصباحصحيفة البعث

قل لي.. يا أبي؟

قلت: وماذا بعد يا أبي؟ قال: بعد أن ننتهي من  جمع الرّكام، سنحمله بالأكياس المتينة فوق عربات الجرّ والسّيارات الكبيرة، ونأخذه إلى المكان الذي قال عنه (بعل) إنه مكان الأسئلة! وهناك سنضع هذا الرّكام بهدوء شديد وترتيب دقيق لأنّ فيه أنفاس أهلنا الأخيرة، وحسراتهم الطويلة التي حرقها رصاص الإسرائيليين وحقدهم الأسود، وسنكتب ما طواه الرّكام من كلام ونرويه، وسنبدأ من الشمال، سيكون ركام بيت حانون في جانب، وركام بيت لاهيا في جانب، وركام جباليا البلد في جانب، وركام مخيّم جباليا في جانب.. وهكذا، وربما صار الرّكام رواية أخرى لقطاع غزة  بقراه وبلداته ومدنه، وسوف نرسل من تبقى من الأبناء إلى هذا الركام كي يبحثوا فيه عن بدايات أيام الحرب وخواتيمها التي كانت لاهبة بنارها، وضاجة بحرور ساعاتها وبردها، ولوّابة بأسئلتها عن كلّ  ما يجعل الحياة حياة، فسنطلب منهم أن يضعوا ما وجدوه من غنى أيام الحرب في صناديق وأكياس كي يوزّع، فيما بعد، على الجميع وبالتساوي، قنطار حزن هنا، وقنطار دمع هناك، وخبر جميل هنا وآخر هناك، وفقد هنا، وفقد هناك، وشكر هنا وآخر هناك، وسوف نقول للجميع: هذا ما تبقى لكم، وعند الفجر، وبعد السهر الطويل، سنقفل صندوق الحديث والعتب والملاومة والحسرة والندم عما خسرناه، وعما فقدناه وعما أبكانا، وعما أدّمانا، وعما صررناه في الصدور.

قلتُ: والبيوت التي فقدت أهلها يا أبي؟ قال: سنقطع الخيط الممتدّ بينها وبين المقابر الوسيعة التي أحاطت بنا مثل السّياج، وسوف نعيدها واقفةً تطاول الأشجار ونداءات الحياة، وسوف نثبّت في واجهاتها الأمامية المرايا الكبيرة المرحّبة بالضيوف، وسوف نملأ العتبات، والمصاطب، وأرفف الشبابيك بنباتات الحبق، والريحان، والنعناع، والعطرة، وجالبات الحظوظ، وقربها سنزرع أشجاراً جديدة، ونبني طابوناً جديداً، ونستدعي هواءً جديداً نظيفاً من روائح البارود كي يمرّ بنا.

قلتُ: وأمكنة الخوف والرّعب، من بيوتٍ خراب، وخيامِ أقمشةٍ وأكياسٍ مقطّعةٍ، عشنا فيها أيام العذاب طيّ العتمة الغامقة، والبرد الشديد، والأسئلة الحائرة يا أبي؟ قال: سنقف أمامها بإجلال ومهابة، فقدنا صرتنا، وجمعت حزننا، وما قلناه، وأخفت وجوهنا الدامعة ووارتها، وباركت أحلامنا، وأرشدتنا إلى دروب جديدة، وأعادتنا لنقرأ أكثر عن قداسة الرّغيف، والنّار، والتراب، وعزة النفس؛ سنقف أمامها لنشكرها على دفء الاجتماع، وغنى المؤانسة في وقت الجروح والحذر والصراخ والبكاء والمطاردة، تماماً مثلما وقف سيدنا المسيح عليه السلام في حضرة  أجمات الشوك قرب طبريا حين آوته وأخذته إليها غمراً بالذراعين، وحين خافت عليه وحمته من مطارديه أصحاب الوجوه الحجرية، والحقد الأسود، والقولات الرّجيمة. قلتُ: وهذه، أكوام القنابل والصواريخ والشظايا الإسرائيلية، وحقائب الجنود المحترقة أطرافها، وكتبهم الممزقة، وكؤوسهم الوسخة، وثيابهم الملوثة بما طرحوه من فضلاتهم فيها، وبنادقهم، وخوذهم الحديدية التي سهوا عنها أو عجزوا عن حملها، وبقع دمائهم، ودفاترهم الصغيرة، وأقلامهم، وجواربهم المثقّبة، وأحذيتهم التي أمحت لونها، ولوحات أسمائهم المعدنية، وفراشي أسنانهم، وساعاتهم التي خذلها الوقت فتوقفت، وهواتفهم الصغيرة المحمولة الصّامتة يا أبي؟ قال: هذه القنابل والصواريخ التي لم تنفجر، والمكتوبُ عليها بالعبرية وبخطوط ركيكة عجلى أمانيهم الوحشية، سوف نعرضها في باحات المدارس ليرى الأبناء ما فعله الآباء بمن أراد سرقة الأرض أو دخولها عنوة! والشظايا، سوف نعطيها للفنانين التشكيليين، وللعاملين في فن الديكور ليصنعوا منها أشجاراً وزهوراً، وطيوراً ، أما البنادق فسنجعلها واقفة بانتظار الرياح حتى إذا ما مرّت بفوهاتها جعلتها تصفر موسيقى، وخوذهم الحديدية وأحذيتهم سنعطيها لبناتنا كي تزرع فيها الزنابق البيض، ودفاترهم الصغيرة سنحفظها برعاية خاصة لأن فيها كلّ ما خافوه في بلادنا، وكلّ ما أجبروا عليه، ما حلموا به كي ينجوا من نار حطب بلادنا التي أشبعتها الشمس وقيداً! وبقع دمائهم، وما أكثرها، سنكتب فوقها ، هنا وقعوا فركعوا.

قلتُ: والمعسكرات الوسيعة التي كانت مراكز تدريب ورماية، وهرج ومرج، ومطاردات لدباباتهم وسيارات الجيب والجرافات الكبيرة والمدرعات ذات العجلات السريعة،.. يا أبي؟ قال: هذه أرض كانت حقولاً، وبراري عاشبة، الآن، سوف نزرعها ورداً، وعباد شمس، وأشجار طيّون. قلتُ: ألا نزرعها قمحاً يا أبي؟ قال: القمح لا ينبت في الأرض التي نالها التعب. قلتُ: وهذه حواماتهم ذات الألوان الرّمادية، التي أخافتنا زمناً طويلاً .. يا أبي؟ قال: سنجعلها “تلفريك” تحوّم بركابها من جبل إلى جبل، ليرى أبناؤنا وبناتنا، ومن علوتها، أيّ بلادٍ حبانا الله بها! قلت: وطائراتهم حاملات الصواريخ والقنابل الرّاعبة يا أبي؟ قال: سنجعلها مطاعم، ومقاهي صغيرة، موزعة في أطراف الشوارع، وأكشاكاً في الساحات، وحمامات للنظافة العامة. وحواجزهم التي سلبتنا الطمأنينة والوقت، ودرّبت نظرنا على تجاوز قباحاتهم..  يا أبي؟

قال: سنجعلها قناطر من ألوان وبهجة وأجراس، كلما مرّت بها الرّيح زهت وضجّت بالموسيقى، وكلما مرّ الخلق بها تلبّثوا أمامها واستراحوا، ورووا ما كتبته النهارات  والليالي الصعاب. قلتُ: وكيف سنقنع من سيأتي بعدنا، أنّ هذا الظلموت الأسود الشدود وقع هنا على البيوت، والمشافي، والمدارس، والأسواق، والطرق.. يا أبي؟ قال: سنترك بعض البيوت التي غدت دماراً من حجارة ورمال وتنك وحديد.. شواهد، ومتاحف في الهواء الطلق ليرى كلّ من يمتلك عينين ماذا فعل الإسرائيليون هنا، وسوف نكتب قصة البيوت والمدارس والمشافي.. وما فقدته.قلتُ: والبحر يا أبي؟

قال: كان البحر عند الإغريق، في زمن الوثنية، إلهاً مُهاباً، وكان لنا منذ الزمن البعيد سلماً نرتقيه لمعرفة العالم، واليوم  في سنوات العذاب، صار سلة غلال، ودرعاً حامية.

قلتُ: والأنفاق.. يا أبي؟ قال: هي الكتاب، يا بني، وفيه أسرارنا.

حسن حميد 

Hasanhamid55@yahoo.com