ثقافةصحيفة البعث

عاشق دمشق.. حكيم مرزوقي يغادر بصمت

جمان بركات 

اندمج بالشام أكثر منا نحن أهل البلد، وعرفها وعرف مقاهيها وباراتها، وأزقتها، وأضاف لدمشق نكهات محبّبة، حتى لقبه البعض بـ “عاشق دمشق” وله في كلّ زاوية فيها أثر، كيف لا وهو الذي عاش فيها أكثر من ثلاثة عقود، ودرّس في المعهد العالي للفنون المسرحية، قبل أن يعود إلى بلاده تونس عام 2012، ومنذ عدة أيام غيّب الموت عاشق دمشق حكيم مرزوقي.

وقد نعت مديرية المسارح والموسيقا السورية الراحل حكيم مرزوقي: قضى أكثر من ثلاثين عاماً في دمشق، قدّم خلالها مجموعة من الأعمال المسرحية التي نالت جوائز في مهرجانات عربية، وتمّت ترجمة بعضها إلى لغات أخرى منها الفرنسية والكردية.

وكتب المخرج السينمائي التونسي سمير الحرباوي صديق الراحل على صفحته الشخصية: “آخر القلاع والحصون، مرفأ النجاة الوحيد والأخير وملاذي الآمن في هذا الهزيع الموحش يرتحل. حكيم مرزوقي الرفيق والصديق الشاعر والكاتب والمسرحي الكبير موحش هذا العالم في غيابك، كيف لي أن أنعى قطعة من روحي؟”.

المسرح

وحكيم مرزوقي من مواليد تونس 1966، قدم إلى دمشق وعاش حالة الفقر والتنقل بين المهن البسيطة وهو يدرس الأدب العربي في جامعة دمشق، ثم انخرط في حركتها المسرحية والثقافية، وفي إحدى مقابلاته الصحفية عام 2016، قال عن واقع المسرح العربي: “المسرحي العربي اليوم مهدّد في مهنته، كون السياسي هو المنافس الأول له، هذا السياسي يقف اليوم فوق مسرح هائل تضخ له الأموال وتسخر له حملات الدعاية، كمسرحي أتساءل ما الذي يمكن مسرحته؟”.

أسّس حكيم مرزوقي عام 1996 مع المخرجة رولا الفتال فرقة “مسرح الرصيف” التي قدمت أولى عروضها من تأليفه حكيم مرزوقي وهي مونودراما “عيشة” التي أدت بطولتها الفنانة رائفة الرز (رائفة أحمد)، ثم قدمتها الفنانة المخضرمة مها الصالح، ووجدت هذه المسرحية صدى كبيراً وترجمت إلى عدة لغات وقدّمها ممثلون أوروبيون، وحازت “عيشة” على جائزتي مهرجان بروكسل للفنون المسرحية عام 1998، وجائزة مهرجان (ليفت) بلندن عام 1999، أما مسرحية “إسماعيل هاملت”، فقد حصلت على جائزة مهرجان قرطاج سنة 1997 وكان قد استلهمها من تجربة شخصية، وقدم مرزوقي أعمالاً مسرحية عديدة، منها “ذاكرة الرماد” و”لعي” و”الوسادة” و”حلم ليلة عيد”، “بساط حلبي”.

السينما

لم تكن السينما بعيدة عن مرزوقي، الذي كتب سيناريوهات مختلفة لعدة أفلام، ومنها فيلم “المايسترو”، و”الصورة الأخيرة”، و”المراهن”، كما عرف كشاعر حيث أصدر مجموعة شعرية عام 2009، باسم “الجار الثامن” في دمشق، كما كتب أعمالاً تلفزيونية وسينمائية في تونس وسورية، وكتب في عدد من الصحف العربية، ومن هذه الصحف صحيفة البعث الذي خصّها بزاوية أسبوعية – حديث الصباح – كان يتناول فيها الشأن والهمّ الثقافي، بالإضافة إلى رؤيته المستقبلية للأدب في الوطن العربي.

في رثاء نفسه

مات حكيم مرزوقي، لكن قصيدته التي رثى فيها نفسه على ما يبدو سترافقنا في كل موت شاعر.

  1. يموتُ الشاعر فلا يختصم الورثة..

يموتُ الشاعر وتستمر المطابع في رجمِ عمّالها بالحبر والأوراق

يموتُ الشاعر ويستمرّ العشّاق في عشقهم

لكن دون مواساة..

دون راعٍ يحرس وحدتهم

يجمع قبلاتهم باقة ويرمي بها في النهر الذاهب إلى جرح الحياة.

***

يموت الشاعر.. ويستمرّ اسمه مصلوباً على نعوة حتى تخضرّ أحجار الجدار ويرفعه الهواء إلى الهواء.

يموت الشاعر فلا تسودّ الأكفان ولا السّحب ولا إشارات المرور

يموت الشاعر فتبيضّ ابتسامات الكارهين وجميع الأوراق الثبوتيّة.

***

يموت الشاعر فيتعرّى العراة.

  1. هذا الرصيف.. ما الذي أنبت البهجة فوق أحجاره؟!

ما الذي جعله رصيفاً غير تلك الخطوات.

***

هذه الفناجين والزجاجات والأحزان والأوحال والتنهّدات لم تجد من يقول لها:

عِمتَ انتصاراً هذا المساء.

***

هؤلاء المنسيون ـ كالهفوات الزوجيّة ـ

من يُشمِّطهم عندما يعطسون

ويقول لهم (صحّة) عندما لا يأكلون

و(نعيماً) عندما لا يستحمّون.

***

من ذا الذي تلين له معادن القطارات والطائرات حين ينتظرها أو يودّعها.

من ذا الذي تحفظُ له الأرصفة مواعيده و(نمرة) حذائه.. تحتفظ له بأعقاب سجائره ودموعه وخصوماته وتحيّاته.

من ذا الذي تخشى قبضته الأوراق والرياح.

من ذا الذي حفر قبره بقلم كان يمشي إلى حتفه كلّ لحظة شرود وتتربّص به روائح المال والمازوت وجثث القلوب الميّتة.

كلَّ هذه الأرض ومن عليها قفص للاتّهام..

فمن قتل الشاعر؟!.

***

إنّه الوحيد

الذي يتحالف ضدّه القبح والجمال ليقتلاه

أمّا القصيدة فشاهد زور يتيم ووحيد.

***

من قتل الشاعر أيّها الشاعر..

من قتله يا معشر جيرانه من الموتى

ويا أيّها المشيّعون؟..

***

يموت الشاعر مثل حصان يموت

يموت..

فينتعش فوق جلده القراد والبعوض

يموت..

فيحلّق فوقه النعيق

وتصدح المنابر ويحيا اليباب.

  1. أيتها الطاعنة في الوحدة والعنوسة والانتظار.. لن يصيبك إلاّ ما لم يكتبه لكِ شاعر.

***

قليلاً من الصمت يا جمهور القبور

اسمعوا أوّل قصيدة من الرخام

لهذا الزائر الذي تجشّم عناء الفرار إليكم

هل عليكم بكفن دون جيوب.

  1. أيتها الأشجار التي لم ترتفع ظلالها والطيور التي لم تطلع من بيوضها..

الأنعام التي لم تعد من مراعيها

والنساء التي لم تفرد شعورها

يا أيها الفجر الذي لم يتنفّس..

انتظروا ولادة شاعر

كي تقتلوه بعد أن يحييكم.

  1. يموت الشاعر بيننا

فيولد شاعر مضرب عن الشعر فينا.