تحقيقاتصحيفة البعث

مشهد مؤلم ومحزن.. تمزيق الكتب آخر الامتحان ظاهرة مستمرة ووعود “التربية” بقمعها لم تنفع!

أيمن فلحوط

سمعته يحاكي نفسه، وهو في الطريق الفرعي بين حديقة البيئة في جرمانا وجدار ثانوية الشهيد هيثم عبد السلام، حين شاهد كمّ الأوراق والكتب الممزقة، معبّراً عن سخطه تجاه هذا السلوك، مع نهاية امتحانات طلبة المدارس قبل امتحانات الشهادات الإعدادية والثانوية، ومردّداً لم نكن كذلك، ولم نفعل هذه الأشياء حين كنا طلاباً، ماذا جرى لهذا الجيل؟ ليعبث بمحتويات الكتب والدفاتر، ويتصرف بهذه العدوانية!.

المشاهدات تتكرّر مع الأسف في كل عام مع نهاية العام الدراسي، بإعادة تمزيق الكتب والدفاتر ورميها في الشارع أمام أبواب المدارس، ولا ندري إن كان ذلك تعبيراً عن فرحهم بانتهاء مرحلة من الإرهاق والتعب النفسي والجسدي.

صور محزنة ومقلقة في الوقت ذاته تجاه هذه التصرفات مجتمعة، التي يصفها كلّ من التقتهم “البعث” بالأفعال الشنيعة، وغيرها من الأوصاف التي تطالعونها في تحقيقنا التالي، مشيرين في الوقت ذاته إلى طرح العديد من الحلول التي سنتوقف عندها، على أمل أن تشكل لبنة في إطار المعالجة ووضع الحلول لتلك الظاهرة.

من أسوأ الظواهر

المدرّسة المتقاعدة والمرشدة الاجتماعية ومديرة عدة مدارس السيدة ناديا الراضي، صاحبة الخبرة في قطاع التربية والتعليم في العديد من المدارس، تؤكد أن الظاهرة منتشرة في معظم الدول العربية، وليس سورية فقط، وهي من أسوأ الظواهر التي تعبّر عن غياب ثقافة احترام الذات، والقيمة الأخلاقية للعلم، وثقافة النظافة العامة، وسوء التعبير عن المشاعر والعواطف، فقد تكون، تنمراً، عدائية، استهتاراً، سلبية، غياب الرقابة الداخلية، فقدان الاحترام المتبادل بين المدرسة والطالب وأولياء الأمور، غياب التربية الأسرية الهادفة الموجهة، احتجاجاً على العنف في بعض المدارس، وصعوبة المناهج، ونظام الامتحانات والتقديرات، أي قضايا كثيرة تطال هذا السلوك السلبي وغيره.

وتتأسف المدرّسة الراضي على هذا الواقع المحزن، لكون الظاهرة منتشرة في كل المحافظات، من دون أي رادع تربوي أو وجداني أو أخلاقي، وفي الأبحاث المختلفة هناك نتائج تدلّ على أن المدرسة غالباً ونتيجة ظروف الحرب القاسية على الوطن، لم تعد قادرة  على تلبية احتياجات الطلاب، ولا تشكل عامل سعادة واهتمام لهم، ولذلك كثر تغيّب الطلاب والتسرّب والرسوب والعنف، والتخريب والسرقة، والتكسير، ما يدلّ على فقدان الاحترام والانتماء للمكان، وغياب أدوار التوجيه والدعم النفسي.

وتخلص الراضي إلى تشخيص الحالة بأن هناك خللاً في الهدفين، من خلال طرح التساؤلات التالية: لماذا لا نضع خطة عمل لوقف هذه الظاهرة وغيرها، والبحث في أسبابها الجوهرية؟.

لماذا لا نتحدث عنها إلا بعد وقوعها ونهاية العام الدراسي؟.

لماذا لا يُستفاد من الخبرات التربوية المتقاعدة، ويتمّ تنسيق مجمع تربوي لهم، والاستفادة من خبراتهم وتجاربهم؟

وتأمل الراضي بأن يتمّ توجيه الطلبة بأساليب مشوّقة وتحميلهم المسؤولية ومشاركتهم في وضع القرارات والعقوبات والخطط.

الشرخ الكبير

في حين يرجع المدرّس المتقاعد عدنان العلي المشهود له بكفاءته في سلك التعليم، كمدرّس وموجّه تربوي أهم الأسباب في تمزيق الكتب والدفاتر إلى الشرخ الكبير بين الطالب والمدرسة، والتعبير عن كراهية المدرسة بكل ما فيها، وتالياً هو تعبير عن شكل من أشكال الرفض للواقع المتردي، وكنتيجة طبيعية لغياب دور العقوبة، سواء في البيت أو في المدرسة.

ويرى العلي أن كل أشكال التخريب والتكسير، وأيضاً تمزيق الكتب نهاية العام، يمكن لهذا السلوك ضبطه، من خلال تفعيل العلاقة بين الطلبة ومدرستهم، مشيراً في هذا الإطار لتجربته العملية في مدارس جرمانا على سبيل المثال لا الحصر، “كما كنت أفعل سابقاً، حيث كنت أقول علامة السلوك هي العلامة المرسبة للطالب، وهي أهم من مادة اللغة العربية، ولا تثبت علامة السلوك إلا بعد تسليم الكتب والدفاتر للمدرسة في نهاية الامتحان، وقد كنت حريصاً على قيامي باستلام الكتب والدفاتر، وأحياناً الأقلام من جميع الطلاب، ونقوم بفرز الكتب الصالحة لإعادة توزيعها في العام التالي، أما الفائض فكنا نبيعه لمعمل الورق، وهذا الاقتراح الآن يحتاج إلى إقرار ودعم من وزارة التربية للحدّ من تلك الظاهرة”.

المفاجأة طلاب الحلقة الأولى

من جانبها مدرّسة اللغة العربية السيدة أمل أبو سعد ترى أن ظاهرة تمزيق الكتب والدفاتر، ورميها كندف الثلج في الشوارع، وأمام أبواب المدارس، انتشرت في السنوات الأخيرة في مدينتنا جرمانا، كما هي الحال في العديد من المحافظات، والمفاجأة أن من يقوم بذلك، هم طلاب المرحلة الأساسية من الحلقة الأولى، متسائلة: إلام تعود أسباب هذه الظاهرة؟

هل هي نقمة على الكتب والدوام والامتحانات وعلى المدارس والصحو المبكر والبرد والحرّ والفقر، أم نقص في التربية التي يتلقاها الطفل في مدرسته أو بيته، أم هي نظرة مهينة للتعليم وللكتاب، الذي صار أدنى اهتمامات الإنسان في هذا العصر الاستهلاكي، الذي حوّل القيم والأخلاق لسلع تقدّر بالليرات، بل بالدولارات؟!.

وعزت المدرّسة أبو سعد أسباب الظاهرة إلى الأوضاع الاقتصادية والمعيشية وللبيئة الاجتماعية، التي يعتبر الكتاب في أدنى اهتماماتها، وللبيئات المجتمعية المشوّهة، التي تشكلت أثناء الحرب على سورية، حيث يضطر الأطفال للعمل مع الأب، أو من دون أب لتأمين لقمة العيش.

وتمنت أبو سعد على المسؤولين التربويين البحث عن أسباب هذه الظاهرة في العمق، وإيجاد حلول جذرية ليست بالعقاب، بل بالعلاج وإعادة النظر في المناهج، ودراسة أوضاع التلاميذ، وكذلك إعادة النظر في معاناة الأسرة السورية على كل الصعد.

نصحنا قبل شهر

المخرج التلفزيوني المعروف بسام دويعر يؤكد أنه من خلال الصفحات الخاصة، وصفحة مجموعة أصدقاء المدارس على الفيسبوك كان قد نبّه لهذه الظاهرة، قبل شهر، لتوخي الحذر من قبل إدارات المدارس والكوادر العاملة بها، ومحاولة الحدّ من هذه الظواهر، فهناك من التزم وقام بالتنبيه على الطلاب، وهناك من أهمل النصيحة، وكانت النتيجة ما شاهدناه أمام العديد من المدارس يوم الخميس في مدينة جرمانا على سبيل المثال لا الحصر!!.

محزنة مؤلمة

الزميلة الصحفية لينا شلهوب من صحيفة الثورة كانت من اللواتي شاهدن الظاهرة أيضاً يوم الخميس الفائت مع نهاية امتحانات طلبة المدارس، فتصفها بالظاهرة المحزنة والمؤلمة، مضيفة، “أنا رأيت بأم عيني وبصراحة جرحني المشهد!”.

وتضيف: للأسف إن ما يحصل إن دلّ على شيء فهو يدلّ على اللامبالاة، والأكثر من ذلك يشير إلى عدم المسؤولية وضعف الانتماء، فالجميع معنيّ ومسؤول، سواء الأهل في البيت، أو المدرسة رغم ضعف الإمكانات، أو حتى السياسة المتبعة في آلية التعليم وأدواته، ولذلك لابدّ من تضافر جميع الجهود، لأن الحرب على سورية خلفت ما خلفته وبات هذا الجيل (البعض منه) يهوى الدمار والتخريب، وتتساءل شلهوب: هل نلوم هذا الجيل الذي ولد وتربى، وكبر بأحضان الأوضاع التي ولّدتها الظروف السيئة، أم نلوم أنفسنا أم جهاتنا المعنية؟.

مبادرة طوعية

السيدة رحاب مرشد مديرة مدرسة أكدت أنها مع كادرها التدريسي والإداري من المرشدين كانوا يقفون على باب المدرسة، حين خرج الطلاب وبدؤوا يمزقون الكتب والدفاتر، ولم يستطيعوا الحدّ من هذا السلوك بقولها “ما قدرنا نمون عليهن، ومع الأسف هم من طلبة الحلقة الأولى”، لذلك ولتلافي هذا الأمر تمّ دعوة كوادر المدرسة مع بعض الطلبة بمبادرة طوعية، للقيام في اليوم التالي بجمع ما تمّ رميه من قبل الطلبة في أكياس خاصة، وكل التحية لمن قام بذلك متطوعاً من الكادر والطلبة، ولمعالجة هذه الظاهرة تقترح تسليم الكتب والدفاتر مباشرة قبل الخروج من المدرسة، ولا يبقى مع الطالب أو الطالبة إلا قلم الكتابة على الأوراق الامتحانية فقط.

غير مرتبطة بالمدرسة

الاختصاصية النفسية الدكتورة غنى نجاتي في جامعة الشام الخاصة تبيّن أن درجة الوعي والسلوك غير مرتبطة بالمدرسة فقط، بل تشمل العديد من الجوانب، وفي مقدمتها الأسرة، خاصة وأن تمزيق الكتب والدفاتر أضحى ظاهرة اجتماعية، تعبّر عن عدم اهتمام بنظافة المدينة، ولذلك تداعيات وآثار نفسية أكثر للطالب، قد تعود لمعاناته خلال السنة الدراسية، أو الشخص الذي يمثل هذه المادة، قد تكون معاناة أستاذ غير تربوي، غير لطيف، أو أصدقاء متنمرين أو تقليد بعض الأصدقاء، وربما عدم تعبيره تجاه هذه المادة التعليمية، وعدم الاستماع لمشاعر الطالب من قبل الأهل، فيشعره بعدم الأمان خوفاً من الامتحان، فينتقم لنفسه من تلك المادة بتمزيق تلك الأوراق، ظناً منه في سلوكه هذا ينهي ارتباطه بالكتاب، أو بمدرّسه، ما يؤثر مستقبلاً على رغبة الطالب وميوله بالتعليم، فللمعلم دور كبير في ذلك، كما يبرز دور الأهل في توعية الأبناء بأهمية وضع حلّ بديل، من خلال إعادة التدوير للكتب، وتقديم الكتب والدفاتر التالفة لمعمل الورق، والاستفادة منها في الأعمال اليدوية بإعادة تصنيعها.

أداء المرشدين

ويبقى السؤال: أين وزارة التربية، وما دور المتخصّصين في الإرشاد الاجتماعي والنفسي في المدارس؟

نترك الإجابة للمعنيين في الوزارة ومديرياتها في المحافظات، علماً أن الوزارة وعدت في العام الماضي وعلى لسان معاون الوزير أنه سيتمّ “العمل على معالجة الظاهرة من خلال اتخاذ إجراءات صارمة تأكيداً على الأهمية العملية والمعنوية للكتاب بعيداً عن القيمة المادية”، لكن للأسف ها هي الظاهرة تتكرّر هذا العام ولم نلحظ أي أثر لإجراءات الوزارة!!.