مجلة البعث الأسبوعية

نحو العربية من وجهة وصفية..  قراءة للدّكتور محمد فلفل في تلقّي المنهج الوصفي وتوظيفه

البعث الأسبوعية- نجوى صليبه

عاملان أثّرا في حركة الدّرس اللغوي العربي الحديث بحسب الدّكتور محمد عبود فلفل، الأوّل: داخلي يتمثّل بالحرص على تيسير النّحو العربي بعدما استُشعر إثر الانتشار العام للتّعليم من صعوبات في تعليم النّحو العربي وتعلّمه، والثّاني: خارجي يتمثّل بالاطّلاع على ما أخذ يشيع في الغرب من مناهج وأصول جديدة في دارس اللغة ممثّلة باللسانيات الحديثة، ويضيف فلفل: “غني عن التّوضيح أنّ مناهج الدّرس اللساني في الغرب منذ نشأتها إلى يوم النّاس هذا تعددت، وتطورّت تطوّراً سريعاً يصبّ إن لم يتعذّر على المرء أن يلمّ بكلّ تفاصيلها، لكنّ المؤكّد الذي يعنينا فيما نحن فيه أمران، أوّلهما: أنّ تعدد هذه المناهج وتباينها يتيحان للدّارسين إمكانات منهجية متعددة لتناول الظّواهر اللغوية وتصنيفها واستخلاص سماتها، وثانيهما: أنّ هذا التّردد وذلك التّباين خير دليلٍ على أنّ واحداً من هذه المناهج غير قادر وحده على الإجابة عن كلّ الأسئلة المتعلّقة بالظّواهر اللغوية على مختلف مستوياتها الصّوتية والمعجمية والصّرفية والتّركيبية، لذا كان لهذه المناهج المتباينة والمتتالية تداعيات واضحة في الدّرس اللغوي العربي الحديث، وذلك ابتداءً بالمنهج التّاريخي المقارن ومروراً باللسانيات المضيّقة ممثّلة بالوصفية والتّوليدية، وانتهاءً إلى اللسانيات الموسّعة ممثّلة بنحو النّصّ أو المنهج الوظيفي أو التّداولي أو غيرها من مناهج اللسانيات الحديثة”.

ويجمل فلفل تداعيات هذه المناهج في الدّرس اللغوي الحديث بثلاثة محاور، يوضّحها: “أولّها: التّعريف بالمنهج اللساني وجهازه المفاهيمي والأصولي، وبيان مسوّغات دراسة اللغة بموجبه، وثانيها: تلمّس معالم التّفكير بمقولات هذا المنهج في الترّاث العربي، وهو ما بات يعرف بلسانيات التّراث، وثالثها: دراسة العربية أو إحدى مدّوناتها في ضوء هذا المنهج اللساني أو ذاك، ويمكن أيضاً أن نلحظ هذه المحاور الثّلاثة في أصداء المنهج الوصفي في درسنا اللغوي الحديث، شأنه في ذلك شأن سائر المناهج اللسانية، وما يعنينا فيما نحن فيه أنّ دراسة العربية من وجهة وصفية باتت جزءاً واضحاً لا خلاف فيه من تاريخ الدّرس اللساني العربي، والثّابت أنّ أوّل من حمل على عاتقه واجب أدائه هم الوصفيون العرب المؤسسون، ثمّ تعددت المحاولات ممّن تتلمذ لهم من الوصفيين الأتباع”.

وخلال المحاضرة التي قدّمها في مجمع اللغة العربية بدمشق، قدّم الدّكتور فلفل ـ عضو المجمع المراسل ـ مراجعةٌ نقدية لإحدى محاولات التّجديد النّحوي ذات الخلفية اللسانية الوصفية، وهي كتاب “النحو الوصفي من خلال القرآن الكريم” للدّكتور محمد صلاح الدّين مصطفى بكر أحد أولئك الأتباع، يقول فلفل: “يرى بكر أنّ المنهج الوصفي أكثر المناهج اللغوية الحديثة أهميةً، فهو كما يقول المنهج الذي يحاول أن يخلّص العلوم اللغوية من الوجهة التّاريخية ومن الوجهة المعيارية، ولبكر إسهامان في هذه البابة، أوّلهما: على الشّابكة وهو بعنوان “الوصفية في الدّراسات العربية القديمة والحديثة”، وثانيهما: كتابه “النّحو الوصفي من خلال القرآن الكريم” والكتاب كما يوضّح صاحبه محاولة لتجديد نحو العربية، وهي مسبوقة ـ كما يقول صاحبها ـ بمحاولات جادّة كمحاولة إبراهيم مصطفى الموسومة بـ”إحياء النّحو” والتي تراءت لبكر محاولةً نظريةً، فسعى في عمله هذا إلى دراسة تطبيقية لنحو العربية تعتمد في المقام الأوّل أسس ومنطلقات المنهج الوصفي، ممّا جعل هذا العمل بحقّ تجلّياً عمليّاً من تجلّيات تجديد الدّرس النّحوي للعربية بهدي من معطيات اللسانيات الغربية الحديثة”.

ويتابع فلفل: “درس بكر في كتابه هذا ذي الأجزاء الأربع نحو العربية بهدي من المنهج الوصفي الذي سوّغ اعتماده بقوله: “يطلق المنهج الوصفي على الدّارس النّحوية الحديثة التي تحاول أن تخلص النّحو العربي ممّا علق به من الشّوائب التي أدخلت عليه خلال عهوده التّاريخية الطّويلة ومحاولة وصف النّص الموجود وصفاً واقعياً من دون تدخّل بمحاولة فرض قواعد قاعدية، أو تأويل أو تعليل، في محاولة لإخراج النّص عن ظاهره ليتمشّى مع القواعد التّقليدية، وفي معرض تأصيله لهذا المنهج اقتصر على بيان أنّ “سوسير” هو المؤسس، واللافت في هذا التّأصيل الارتجالية والافتقار إلى العمق والشّمول الذي افتقر إليه كثير من النّماذج اللسانية الرّائجة في الثّقافة العربية الحديثة.. لقد عرض بكر غير مرّة للمنطلقات النّظرية لمنهج الوصفي ولأسسه المنهجية التي سوّغت له أن يعتمده أساساً لتصوّر نحو العربية، فهو يعتمد الكتابة النّحوية الوصفية التي تعتمد على وصف النّصّ الموجود فعلاً من دون التّدخّل فيما وراء النّص ومن دون محاولة فرض قواعد أو قوالب نحوية على هذه النّصوص، والمتتبع للمنطلقات النّظرية للوصفية ولأسسها المنهجية كما تراءت لدى بكر يجدها ممثّلة بالوحدات الثّلاث التي يجب أن تتوافر في المدوّنة اللغوية المعتمدة في وضع القواعد النّحوية، وهي وحدة الزّمان والمكان والجنس اللغوي، كما تتمثّل بالاقتصار على وصف النّصّ وصفاً محكوماً في ظاهره بعيداً عن إخضاعه للتّأويل أو التّعليل، أو الحكم عليه بالصّواب أو الخطأ”.

ويبيّن فلفل: “يتناول المنهج الوصفي كما هو معروف بالدّرس العلمي الظّواهر اللغوية بعد تحديد مجالها وزمانها وبيئتها، فلا بدّ من تحديد المجال، كأن يكون لغة فصحى أو لهجة أو مستوى معيناً من مستويات الاستعمال اللغوي، كالشّعر أو الإعلام، ولا بدّ من تحديد المرحلة الزّمنية للظّاهرة اللغوية المدروسة، لأنّ الوصفية تفترض اللغة في حالة سكون في هذه المرحلة، كما تحرص على وحدة مكان الظّاهرة المدروسة ووحدة بيئتها أو ميدان استعمالها، لا بدّ إذن من أن تتوافر في المدوّنة اللغوية هذه الضّوابط الثّلاثة إذا ما أردنا أن ندرسها دراسةً وصفيةً، وقد عرفت هذه الضّوابط الوصفية بالوحدات الثّلاث كما نجد عند بكر الذي أبدى حرصه على العمل بمؤدى هذه الوحدات.. إنّ بكراً قدّم هذه الوحدات وكأنّها مسلمات غير قابلة للنّقد أو النّقض علماً أنّ الأمر ليس كذلك، فمن الضّروري أحياناً التّمييز بين الفروض العلمية المنهجية التي قد تستهوينا نظرياً للمرّة الأولى في دراسة الظّاهرة اللغوية، وبين الواقع اللغوي الذي قد لا يُسلس قياده لهذه الفروض، ولعلّ مقولة الوحدات الثّلاث هذه بحاجة إلى أن ينظر إليها في الحالة العربية على الأقل في ضوء هذا التّمييز، فأساس هذه الوحدات ولا سيّما وحدة الزّمان هو مقولة التّزامن، ولهذا اختزل بعض المعنيين العرب والغربيين الوصفية بهذه المقولة التي تقوم على افتراض سكون اللغة وهو افتراض لا تسمح ديمومة التّطوّر اللغوي بالوقوف عليه في مسيرة اللغة التّاريخية، لذلك تعرّضت هذه المقولة لنقد ربّما وصل إلى حدّ النّقض، كما أنّ المدوّنة اللغوية المتزامنة المتعددة في الدّرس الوصفي متمثّلة فيما استعملته من اللغة إنّما هي ممثّلة لهذه اللغة في حقبة ما، لكنّها لا تمثّلها تمام التّمثيل، ما يسمح القول إنّ هذه المدوّنة مهما علا شأنها ليست قادرة وحدها من الوجهة الوظيفية التّعليمية التي راعاها بكر في نحوه الوصفي على تقديم قواعد وأحكام تمكّن الملّم بها من التّواصل مع مختلف المدوّنات الأخرى للعربية”.

ويعرض فلفل لأمر شاع في الدّرس اللغوي العربي الحديث، يقول: “شاعت المقارنة بين منهجين في درس العربية، غالباً ما يكون أحدهما المقابل النّقيض للآخر، وهما المنهج الوصفي والمنهج المعياري، وأهمّ ما قام عليه الأوّل مخالفاً للثّاني أنّه أي الوصفي يقتصر على وصف الظّاهرة اللغوية، ويعزف عن إخضاعها للتّقدير والتّأويل، وعن حكم القيمة أو عن معيار الخطأ والصّواب، ما يشي بما ذكرناه قبلاً، وبما سنلاحظه عند بكر من أنّ المنهج الوصفي ليس منهجاً تعليمياً، أو لنقل إنّه لم يكن للغرض التّعليمي حضور ملحوظ في تحديد منطلقاته وأسسه المنهجية، وذلك كلّه بخلاف المنهج المعياري الذي قام كما هو معروف على تلك الأمور التي نبذتها الوصفية أو تخلّت عنها، واللافت أنّ بكراً في نحوه الوصفي هذا شأنه شأن الوصفيين العرب عامةً لحظ الفارق بين هذين المنهجين وحرص على بيان أهمّ المنطلقات النّظرية والأسس المنهجية لكلّ منهما، وعلى العمل ما أمكن بمقولات المنهج الوصفي الذي يكتفي كما يقول بكر نفسه بوصف النّصوص اللغوية وصفاً واقعياً”.

أمّا الهدف من هذا المنهج فبيّنه فلفل بالقول: “كما هو معروف في التّلقي العربي للمنهج الوصفي، الهدف الأكثر أهمية لهذا المنهج هو تقرير الحقائق اللغوية حسبما تدلّ عليها الملاحظة من دون محاولة تفسيرها بتصوّرات غير لغوية، فاللسانيات الوصفية تدرس بنية لغوية ما دراسةً علميةً موضوعيةً بعيداً عن التّعسّف والافتراض والتّأويل، لذا تتميّز بأنّها لا تأخذ بالمقولات أو الأقيسة المنطقية أو التّعليلات، لذا أعرض البعض عن التّعليل، علماً أنّ واقع الحال حتّى في الدّرس الوصفي الغربي لم يكن على هذه الدّرجة من التّشدد أو الحسم في الموقف من التّعليل، فـ”سوسير” مثلاً يتحدّث في محاضراته عن أسباب التّغيرات اللغوية، وأنّ البحث عنها من أكثر المسائل الألسنية صعوبةً، وأنّ قانون الجهد الأقلّ يمكنه تفسير عدداً من حالات التّغيّر الصّوتي، أمّا وصفيو “براغ” في ثلاثينيات القرن الماضي فقد تجاوزوا الوصف إلى التّفسير، وظهر أيضاً في أواخر الخمسينيات في الغرب اتّجاهٌ جديدٌ لا يقف عند وصف الظّواهر، إنّما يسعى إلى تفسيرها على أساس من المنهج العلمي، والمعروف كما يقول الفاسي الفهري إنّ النّظرية العلمية يجب أن ترقى إلى مستوى تفسيري، ولا تكتفي بالملاحظة الخارجية في جميع الأحوال، بل تبحث في الكيف وما وراء الكيف، وعلى الرّغم من ذلك نرى بكراً يتمسّك بما هو شائع عن المنهج الوصفي من العزوف عن تعليل الظّواهر اللغوية، فقد نصّ غير مرّة على أنّ التّعليل ليس ممّا يُعنى به المنهج، ونجده يعلّل بعض ما هو بصدد مناقشته من معطيات اللغة، معتذراً حيناً من هذا التّناقض بين التّنظير والتّطبيق، وغير معتذر أحياناً، ومن القبيل الأوّل ما في حديثه عن اجتماع القسم والشّرط حيث قال: “على الرّغم من أنّنا نؤمن بأنّ التّبرير والتّعليل ليس من دواعي المنهج الوصفي، لكن ذلك لا يمنعنا من أن نحاول أن نكتشف الغرض من ورود الجواب لواحد منهما دون الآخر”، كما يعتذر لعنايته ببيان أساس بناء الكم وإعرابه فيقول: “على الرّغم من أنّ النّحو الوصفي ليس من منهجه الوقوف على الأسباب الكامنة وراء فكرة الإعراب والبناء لأنّه ليس من الملائم لطبيعته البحث عن مثل هذه الأسباب فإنّنا سنمرّ سريعاً على فكرة البناء والسّبب الذي ذكره النّحويون لبناء الأسماء”.

ويخوض فلفل في علاقة النّحو الوصفي بالتأويل وحكم القيمة بالقول: “أساس مفهوم التّأويل في النّحو العربي هو حمل الكلام على خلاف ظاهره، وذلك لأسباب دلالية أو عقدية أو صناعية غايتها ردّ النّصوص التي لم تستوعبها القاعدة إلى بيت طاعتها، لذا كان من الطّبيعي أن يعرض الوصفي العربي عن التّأويل في دراسته للظّاهرة اللغوية لأنّ الوصفية تعتمد على وصف ما هو موجود فعلاً، أي وصف النّصوص اللغوية كما هي من دون فرض نظريات أو قواعد عليها ومحاولة إدخال هذه النّصوص تحت هذه القواعد، ومن المعروف أنّ اللسانيات لا تمارس حكم القيمة على ما تدرسه من اللغات، لأنّها لا تفاضل بين لغات البشر، أو بين اللهجات،  أما بكر فيما سمّاه نحواً وصفياً فقد يفضل استعمالاً على استعمال، فبعد أن دلل بالنّصوص على استعمال “الألاء” اسماً موصولاً، فضّل ألا تستعمل إلّا اسم إشارة، وقد يمارس على الظّاهرة حكم القيمة، فتراءى له بعض الاستعمالات اللغوية ضعيفة أو متفاضلة في الفصاحة، ففي تعليقه على إحدى الظّواهر يقول: “ربّما كانت لغات بعض القبائل التي لم ترق إلى مستوى الفصحى”.

أمّا السّؤال الملحّ ها هنا فهو: هل الغرض التّعليمي من أهداف المنهج الوصفي؟ يجيب فلفل: “معروف أنّ الغرض التّعليمي ليس من أهداف المنهج الوصفي، فهو يُعنى كما يقول “براونكيث” و”جيم ملر” بوصف حقائق اللغة وصفاً منهجياً كاملاً وموضوعياً من دون تقديم قواعد تبيّن كيفية استعمال اللغة المثالي المفترض، وقد لاحظنا من قبل نصّ بعض الوصفيين على أنّ الهدف التّعليمي وتقنين اللغة بقواعد ليس من مهام الوصفية أو من أولوياتها، والرّاجح أنّ ذلك لا يعبّر بدقّة عمّا في الوصفية عامّة، ففي معرض حديثهما عن وصفية “هاريس” يقول “ماري آن بافو” و”جورج إلياس رفاتي”: “يتمّ الوصف اللساني على مرحلتين: جرد الوحدات البنيوية للغلة أوّلاَ، ثمّ تحديد القواعد التي تربط بينها”، ويقولان: “إنّ هدف “هاريس” هو تعميم منهج يستطيع الإحاطة باشتغال اللغة ويشمل عملُه مُشكِل الاستثناءات، أي الظّواهر التي يمكن ألّا تخضع للقواعد المستخلصة من معالجة الملفوظات”.

يؤخذ على بكر في كتابه هذا ـ بحسب فلفل ـ التّناقض بين التّنظير والتّطبيق، يوضّح: “هو تناقض يمكن تلطيفه أو تفهّمه بأنّه إعراض عن التّعليلات الذّهنية المنطقية البعيدة عن طبيعة اللغة، والمفتعلة أو المتكلفة التي ابتلي بها النّحو العربي، والتي هي ليست علّة لما عُلّل بها، وعلى أنّه حرص على التّعليل المتفق وطبيعة اللغة بنية ووظيفة وممارسة”.