ثقافة

بـيـن ضفـتين..

عاد من سفرته الأخيرة حزيناً.. لم يكن بإشراقه وسروره المعتاد، مع أنه ذهب ليستجم وكنت أتوقع أن أراه بمنتهى السعادة، لكنه على غير العادة دخل والدمعة تملأ عينيه وهو المتمرس في السلك الدبلوماسي والتعامل مع الناس، فكان في كل زيارة يغادر فيها بلده يعود بمنتهى السرور لأنه كان يلتقي بأصدقائه القدامى، يدردش معهم ويسمع أخبارهم، ويكونون كخلية النحل حوله فيعيش معهم أجمل لحظات حياته.
حاله هذه أثارت في ذهني تساؤلات كثيرة حول ما يحزنه ويجعله بهذه الكآبة؟ ما الذي جرى له؟ هل هناك مأساة ما، هل حدث له مكروه هناك، أم فقد أحد أصدقائه؟ ثم سألته والقلق والريبة يسيطران عليّ ما الذي جرى:
عدّل جلسته على الكرسي وبدأ الحديث والغصّة تملأ قلبه: هذه المرة كانت مختلفة، وهو الذي تعرف عبر عمله في السلك الدبلوماسي إلى أشكال مختلفة من البشر واطلع على نماذج مختلفة من الآراء والمذاهب والطوائف والقوميات، لكن جميعهم كانوا ينضوون تحت اسم سوري.. تحت ظل هذه الكلمة كان يتلاشى كل شيء إلا رغبتنا بأن نكون معاً.. كنت عند وصولي للمطار أجد الأصدقاء جميعاً بانتظاري وعيونهم ترقص فرحاً، فكنّا نسهر وندردش عن أيامهم وغربتهم، وكان لقائي بهم من أجمل اللحظات التي أعيشها هناك، لم أكن أشعر للحظة أننا في الغربة، كان يوحدنا الوطن بحاراته وشجره وزهره وحكايات ناسه وأحلامهم وطموحاتهم وعودتهم القريبة للوطن، أما هذه المرة فكانت مختلفة تماماً، كانوا بانتظاري في المطار ولكن بمجموعتين مختلفتين، وبأماكن مختلفة، وعند وصولي إلى المطار وتوجهي إلى قاعة الاستقبال فاجأتني الحال التي رأيتها!، كان المكان مثقلاً بالحزن والقلق حيث وجدتهم على ضفتين مختلفتين، وهذا ما أرقني فحتى اتفاقنا على عشائنا وسهرنا كما اعتدنا كان بموعدين منفصلين كل على حده.. وهذا ما أدمى قلبي، وطني الصغير الذي بنيته في الغربة وسيّجته بمحبة أبنائه وتقديسهم لترابه باتوا أغراباً، أراهم اليوم يتمزقون أمام عيني.. وقفت مدهوشاً من هول ما أرى.. وما أسمع.. فبعد ثلاث سنوات من الموت والقهر كان الوطن جامعهم الأول.. ما الذي شتّتهم الآن بعد أن بدأت بشائر نصرنا تهلّ.. لماذا الآن.. ما الذي جرى حتى يختلف أصدقائي وإخوتي في الوطن، لماذا تركوا للريح السوداء مشيئة أن تبدل ألوانهم وتراب وطنهم الذي يدفئ أفئدتهم ويلوّن مآقيهم.. حملت حزني وغصة قلبي.. ركبت سيارتي وعدت إلى بيتي وصور أصدقائي تلاحقني وتتراكض أمام ناظري صورة وراء أخرى، صور تتقاذفها الأمواج وتطيّرها الرياح، صور بدم وصور بدموع وأخرى بابتسامة وحزن.. هذا التنوع الذي اعتدنا عليه، فكلهم كلهم يمثلون سورية، منهم من يعشق بردى ومنهم قاسيون.. باتت هذه الصور التي تتلاحق أمام ناظري تشتّتني وتدمي قلبي، شعرت بالاختناق ففتحت قميصي لأستنشق هواء الغربة الرمادي الذي يتنفسه أبناؤنا وغفوت والدمعة في عيني لأجد نفسي واقفاً على قمة جبل مزنر بالياسمين يلفه علم الوطن، أمدّ يدي وأصرخ بأعلى صوتي مامن مجيب، وجميع الذين اعتدت أن يكونوا بانتظاري كانوا ينظرون إليّ والدهشة تملأ عيونهم، ووراءهم النيران تتعالى والأرض تهتز من تحتهم وهم يحاولون التوازن ولا يستطيعون العودة إلى الوراء ولا الوقوف في أماكنهم، تابعت ويداي ممدودتان لهم.. بدأت عيونهم الخائفة تتنقل في كل الأماكن بحثاً عن طوق نجاة فلم يجدوا أمامهم إلا حضن العلم المكحل بالياسمين لينتشلهم من دوامتهم، بدأت أقدامهم تتقدم باتجاهي وعيونهم شاخصة إلى العلم وخطواتهم تتقارب من بعضهم ومن العلم وبدأت الضفتان تتلاشى.. هنا عند سور قاسـيون تلاشت جميع الإشارات وبدأ الغيم الأسود يتلاشى ويغيب لتسطع شمس الحق وتبدأ أنوار جديدة تكتب أبجديتها في عيونهم بعد أن تلاشت الغشاوة عن محياهم ساروا بخطوات واثقة، وعيون شاخصة إلى مهدهم الأول.. إلى رمز وجودهم وهويتهم وعنوان كرامتهم، إلى علمهم إلى عرائش الياسمين المتوزعة على عتبات البيوت في حارات دمشق القديمة وجدرانها، كان صوتهم الدافئ يتردّد صداه في أذني ليقول لي: نأسف لما قلناه لك أمس.. فاليوم سنسهر جميعاً وكالعادة على عبق الياسمين الذي يغمرنا به حضورك، فأنت أعدت لنا روح الوطن بعد أن شوهته الغربة وأكاذيبها كلها إلى زوال إلا رائحة الشام وتراتيل كنائسها وأصوات مآذنها وهمسات حارات دمشق القديمة نحن جميعاً بانتظارك مساء على العشاء، لقد تلاشت الضفتان وبتنا على ضفة واحدة أمواجها روح الشام، ليتني.. فجأة أتاني صوت السائق مجلجلاً بالتعب ليقول لي وصلنا.. فنظرت إليه وقلت له: ليتني لم أستيقظ لأتابع حلمي الذي أتمنى أن أعيشه حقيقة.. فسورية عبر التاريخ تعرضت لغزوات وحروب كثيرة وعملوا كثيراً على تقسيمها وتفتيتها لكنهم اندحروا وذهبوا وبقيت هي نوارة على جبين الشمس.. فهل لأبناء وطني وإخوتي أن يستيقظوا من غفلتهم ويعودوا إلى الوطن الذي كرّمهم ومنحهم اسمه.. بعد هذا الحديث الذي أتعبه كثيراً، استأذن مني ليدخل إلى غرفته ويغطّ في نوم عميق على أمل أحلام جديدة.
الهام سلطان