ثقافة

قاص من وطني عبد الله عبد.. ومسيرة إبداعية قصيرة

– هل يكفي أن يطلق اسمه على حديقة أطفال؟ أو قاعة مطالعة في مركز ثقافي؟وصولاً إلى الحقيقة، جاءت قصصه واقعية، دون زخرفة لفظية، في انحياز واضح إلى الناس البسطاء، وقضايا المهمشين في المجتمع، فتوشحت بالحزن ربَّما نتيجة ظروفه المعيشية القاسية، إذ بدأ العمل في سن مبكرة بعد حصوله على الشهادة الإعدادية حين عمل في التدريس، ثم في المرفأ، بعدها في مؤسسة التبغ.. وعلى الرغم من كل هذا تابع تعليمه الجامعي حتَّى نال إجازة في الآداب – قسم الفلسفة.

“الضحك في آخر الليل”

رجل دون اسم، ما يعني أيَّ شخص ينطبق عليه الحال، يدخل بيته، لكن أنفه لا يستقبل رائحة البطاطا المقليَّة: زيت وثوم وكزبرة وبصل… المدخل معتم، وزوجته قلقت عليه “قلتُ: الدنيا برد، وثيابه خفيفة” فلم تنم.. عندما لامس يدها شعر بها دافئة، لكنَّها أجفلت من لمسته: “لم أرَ في حياتي يداً باردة بهذا الشكل” كان يحمل البرد على ظهره الذي ناء تحت ثقله، فانحنى قليلاً:

– لقد كلفت بمهمة تفريغ مئتي طن سكر، فتقاتلت مع العمال كي يحافظوا على الأكياس من التمزق، وحتَّى لا يتعرض السكر للنهب.

البيت بائس، ينحشر فيه الأولاد الثلاثة على سرير واحد، وتتعثر عينا الرجل “بصوبيا” منطفئة، مع أنَّ المفترض أن تكون مشتعلة في مثل هذه الأيام من الشتاء القارس، لكن المازوت نفد، فتدخل زوجته بابور الكاز، تضع فوقه صفيحة معدنية كي يتدفأ الرجل البردان، بعد ذلك تحضر صينية عليها بطاطا مسلوقة مع بصلة ومملحة ورغيف خبز.. قال: “لم تطبخي بطاطا بالزيت”! فأخبرته بأنَّها طلبت من السمَّان بعض الزيت على الحساب فرفض متعللاً:

– طلبت من زوجِكِ أربع، خمس تنكات زيت نباتي فرفض…

ردَّ عليها: كان سيبيعها بالسوق السوداء، والزيت عندنا مخصص للبيع للمستهلك مباشرة.

تابع ازدراد طعامه بصمت، وهو يتذكر حين كان يوزع مئات الكيلووات على المواطنين، فعدَّه البعض حماراً، لأنَّه لم يغتنم الفرصة، ويبيع الزيت لتجَّار السوق السوداء مثل سمَّان حارته.

عندما دخلت زوجته، تحمل صينية عليها أدوات الشايِّ أسرَّ لنفسه: “ليس أطيب من كأس شاي بعد يوم لعين في الباخرة وسط العمَّال”.

وضعت إبريق الشاي فوق بابور الكاز حتَّى غلا الماء داخله، ثمَّ أنزلته على الأرض، أخذتْ قدراً من الشايِّ وضعته في الإبريق، أصبحت الساعة الثانية بعد منتصف الليل حينما سأل زوجته:

– ألا نشرب الشاي؟

فابتسمت ابتسامة شاحبة ومدَّت له علبة السكر، استقر بصره في قاعها الفارغ، فابتسم بدوره متذكراً أطنان السكر، وصوته يهدر إذا انفتق كيس فاندلق شيء منه على الأرض:

– هذا سكر، وليس تراباً.

كان بخار الشاي يتصاعد من قدحين مليئين، لم يمسّا، واستمر هو في الضحك حتى دمعت عيناه.

قصته هذه يذكرها الكثيرون فقد كانت تدرس في المرحلة الإعدادية”.

إضاءة

على الرغم من البرودة في الخارج ثمة تعامل رهيف بين الرجل وزوجته في دفء إنساني حميمي جميل، فهو لم يفتح الباب بنفسه، بل فتحته له، أي كانت في استقباله، ولم تنم حتَّى حضر، أشعلت بابور الكاز كي يتدفأ، كما كانت تفعل أمُّه مع إخوته الصغار، حالة فقر متواصلة منذ طفولته وقررت أنَّها لن تتعامل مع السمَّان الذي منع عنها الزيت، ما يعني مشاركة زوجها الموظف الشريف في الموقف الرافض لأن يرتشي، أو يتهاون في مسألة ضميره المهنيِّ الحيِّ.. ثمَّ إنَّ مجريات القصة تسير بسلاسة، كأنَّك أمام شريط حياتيٍّ واقعي، وهي ليست الوحيدة في هذا، فأغلب قصصه جميلة ومؤثِّرة، ما يمكنني إضافته أنَّ القصَّة المقدَّمة – كأنموذج عن قصص الأديب عبد الله عبد – ما زالت حيَّة وقد مرَّت حوالي أربعة عقود من السنوات على كتابتها، والآن – في معمعة الظروف العصيبة التي تمرُّ بها بلدنا الحبيبة سورية – ما أكثر الذين يعيشون على الكفاف، وهم يمارسون وظائفهم في أخلاقية مهنيَّة عاليَّة، وضمير حي متيقّظ..

تميَّز بحضور فَرِحٍ بين الناس، يضفي البهجة حيثما حلَّ، كان يحبُّ البساطة، متلهفاً للقاء الفقراء والمساكين، سعيداً بوجوده بينهم طوال الوقت.

عبد الله عبد: ولد في 8 تشرين الثاني 1928 في مدينة اللاذقيَّة، ولم يتوقف عن الإبداع خلال سنوات حياته القليلة (44 سنة) حيث نشر في مجلة المعرفة السورية، والآداب اللبنانيَّة، وتفوق على الكثير من القاصِّين العرب، إذ نال العديد من الجوائز القصصيَّة، لاسيَّما في المسابقات التي أقيمت في لبنان، ما يثبت أنَّ القصَّة في سورية منذ البداية تحرز مواقع متقدمة في السَّاحة القصصية العربيَّة.

حيَّد نفسه، فانعزل في الريف الساحليِّ، قناعته أنَّ الأديب فوق التأطير والتحزب، فلم ينتسب إلاَّ إلى حزب الأدب.

 ترك إرثاً أدبياً متميِّزاً فصدرت له: 3 مجموعات قصصيَّة:

< السيران ولعبة أولاد يعقوب، عن اتحاد الكتاب العرب 1972.

< النجوم، عن وزارة الثقافة 1977. منها قصة الضحك في آخر الليل.

< مات البنفسج، وصدرت في كتاب مع صحيفة البعث.

< رواية وحيدة تدور حول عمال المياومة بعنوان (الرأس والجدار).

وله مجموعتان قصصيتان للأطفال:

1- العصفور المسافر.

2- الطيران الأول.

< أصدرت وزارة الثقافة مشكورةً أعماله الكاملة.

ختاماً أؤكد ضرورة إقامة مهرجان تُقرأ فيه نتاجاته، لأن تكريم الكاتب الحقيقي يكون بقراءته، وتقديم دراسات نقدية عنه، لعلنا -بعدما هضم حقه طويلاً – نفي كاتبنا المبدع عبد الله عبد بعض حقه علينا، وهو واحد من أعلام القصَّة الواقعيَّة الاجتماعية، وأحد روادها الأوائل في سورية والوطن العربي.

أيمن الحسن