ثقافة

في وظيفة الشعر

لا توجد أي نظرية يمكن أن تقبض على جوهر الشعر لتحدد ماهيته تحديدا محكما، وقد حاول الناقد يوسف سامي اليوسف أن يقارب هذه الماهية من خلال تعريفه للشعر بأنه لغة حساسة متعالية تنتجها غريزة الكمال التي لا وظيفة لها سوى الارتقاء بالإنسان إلى الساميات، ثم أن من شأنها أن تستقطر وعي الحياة وتواترها وأن تشرح فحوى النفس وتبسطها أمام الوعي. معتبرا أن القصيدة هي محاولة باهرة للانتصار على كل سلب أو نقص، ووسيلة اتصال بالحياة في نفورها وتقدمها الغزير، وقد رافق الشعر الإنسان طوال تاريخه الذي لا يقل عن خمسة آلاف عام، وقبل الوصول إلى التعريف لا بد من السؤال عن وظيفة الشعر أولا؟
وذكر الناقد اليوسف في كتابه  “ما الشعر العظيم” هذه الوظائف التي أوجزها الشاعر نزار بريك هنيدي في تقديمه للكتاب الصادر عن اتحاد الكتاب العرب ضمن سلسلة كتاب الجيب المرافق لمجلة الموقف الأدبي العدد 73، والكتاب من اختيار الدكتور حسين جمعة رئيس اتحاد الكتاب العرب:
– الشعر برهة كمال اللغة وأعلى أطوارها وأسمى تجلياتها على الإطلاق، فإن ترفيع اللغة إلى أفق اكتمالها هو الوظيفة الأولى للشعر، وعندما ينحت الشاعر اللغة ويصقلها ابتغاء جعلها أكثر شرفا ورفعة ويعمل على تحويلها من الألفة إلى الغرابة فإنه يبث فيها روحا جديدة لم تكن لها من قبل.
– للشعر وظيفة إنعاش الروح بما يبتكر ويبدع وهو محاولة للتماس مع البدايات من الحب الصبوي والحنين النازع نحو الأقاصي الجاذبة وكل ماهو  من مملكة الصبوة والإشراق.
– حين يتعامل المرء مع الشعر إنتاجا واستقبالا فإنما يفعل ذلك استجابة منه لغريزة التعبير والصياغة والتشكيل التي من شأنها أن تستحضر محتواه الداخلي على هيئة أقوال وأشكال فنية ذات صلة بالعلو مما يحرر القوى الخبيئة داخل الإنسان.
– الشعر في جوهره تكميل للحياة لأنه يصون الذاكرة والخيال معا تعجز عنه الطبيعة الحية لإنجازه، بل إن من وظائفه أن يدخر مما لا يتيسر تحقيقه عيانا.
– الشعر يقول ما لا يقوله الذهن ولا المنطق ولا النظريات ولا العلوم وما من قيمة له بمقدار ما تبث فيه النفس من دفء وصدق وعمق ووجدان وتلك أبرز مكونات الأصالة.
– لأن الشعر يعانق الحياة والموجودات العينية والوقائع والأحداث التاريخية فهو شديد الحساسية تجاه السطح أو الواقع الخارجي وتجاه العمق، لكن أهم ما يميز الأمر أن التجربة لا توصف من الخارج بل إن الشعر لا يتناولها إلا بعدما صارت شعورا، أي برهة في بنية النفس، حارّة وراسخة في آن واحد، بمعنى أن الشعر لا يصور الواقع ولا ينسخه، وإنما يرسم باللغة الحية مكابدة الوجدان للواقع أو التاريخ والوجود معا و”بالذاتية العينية الممتلئة بالتجربة الفعلية”.
– الاتصال بالآخر عبر صميم الحياة والانفلات من المحدودية والراهنية وهو ما يتأسس على مبدأ البلوغ إلى الأماكن النائية والأزمان التي لم تبدأ بعد.
– يصون الشعر روح الأسطورة وشعور الإنسان البهجة بالاستسرار الذي يتغلغل في الأشياء، إذ إن الرمز أو المجاز والاستعارة وجميع القول الموحي من سلالة الروح الإنسانية العميقة بأسرارها، ولعل من شأن هذه الوظيفة العاطفية، أي تحصين الشعر لروح البداية العميقة وضمان استمرارها أن تمنحنا حق النظر للشعر بوصفه إدراك لبواطن الأشياء في ثراها المدهش، ثم لعلها كذلك أن تضمر علة استمرار الشعر لنفسه حتى في الشروط التاريخية والاجتماعية التي لا تقدم الأرضية الكافية لوجوده أو استمراره.
– إن وجود الشعر في الدنيا هو نهوض بوظيفة العلو التي من شأنها أن تتعالى فوق رتابة المياومة الزائفة، فأن تقرض الشعر يعني أن تمارس فعلا أصيلا لا غاية له سوى السمو أو العلو الروحي النازع إلى مغادرة المادة باتجاه التوكيد على قيمة الإنسان.
– إن الوظيفة الكلية للأدب هي خلق الضمير البشري الذي انقرض أو أوشك، فالأدب والفن يهدفان إلى إعادة خلق الإنسان الذي شوهه الجشع والولوغ في الدم البشري. وإن إنجاز أي عمل فني أو أدبي عظيم هو انتصار للروح البشرية على الخواء وضحالة الوجود وهذا الانتصار لا يخص فردا بعينه ولا شعبا واحدا بل نصر للإنسانية جميعها.
أكسم طلاع