ثقافة

الدّنيا .. مسجونةٌ في مدينة

في المدنِ المزدحمة، ثمّةَ ما يُشعِرُكَ بالوحدة وأنت ترتطمُ بأكتافِ الآخرينَ على رصيفٍ ضيّق، رغمَ امتلائكَ بالنّاس، بأخبارهم، وهمومهم، وجراحهم، وأبسط أسبابِ فرحهم. هاجسُ الوِحدةِ يتلبّسُ شرودَكَ، يرتسمُ على ملامحِ نظراتِكِ المشتّتة، يعرّيكَ من مسيرِكَ، وربّما يأخذُكَ إلى دروبٍ لا نهايةَ لها. ثمّةَ من يقتحمُ شرودَكَ، وأنتَ تنتظرُ الحافلة، بصياحٍ لترغيبكَ بالشّراء فيقطعُ سلسلةَ تحليقكَ في سماءِ الخيال، ويعودُ بكَ إلى حيثُ الواقعُ الأسمى. ثمّةَ من يصدفكَ دونَ أن تنتبه جالساً على مقعدٍ خشبيّ في حديقةٍ ما، يتعرّفُ عليكَ من ضياعِكِ، يتذكّرُ منكَ ابتسامةً ربّما، أو موقفاً، أو دمعة. يلحقكَ دونَ أن تعلم، يطاردُ عيونك دونَ أن يلحظَ اكتظاظكَ بالعمى. ثمّة من يرشدُكَ دون أن تسأل، وأنتَ تبحثُ عن مكانٍ لقضاءِ ليلةٍ أو للسّهرِ أو للنومِ العميق، يرشدُكَ بعينيهِ، بقلبهِ، بلهجتهِ المحبّبةِ. ثمّةَ من يقتربُ من أنفاسك دون أن يقبّلك، وأنتَ تتفادى الاصطدامَ على جسرِ مشاةٍ ضيّق، ويضمّكَ زحاماً دونَ أن تشعرَ بالحنان. ثمّةَ من يحنّ على ارتجافك، في لحظاتِ بردٍ وانتظارٍ أمامَ أحد المطاعمِ المشهورة، دونَ أن يُخبرك، ويغطّيكَ بأهدابهِ دونَ أن يلمسك. ثمّةَ من يشتمكَ دونَ أن تُجرم، ومن يسخرُ منك دونَ أن تفهم ابتسامته. ثمّةَ من لا يلحظ وجودك رغمَ مروركَ وسط السّياراتِ المُسرعة، ثمّةَ من لا يكترثُ حتى بصراخِ قلبك، ثمّةَ من يمسحُ دمعكَ بكلمة في لحظاتِ ضعفٍ لا يمكنُ إخفاؤها، ومن يطعنُ انتظاركَ بهروب، ومن ينتظركَ بلا أمل، ثمّةَ في المدنِ المزدحمةِ من يشبهُكَ على رصيفٍ مقابل وأنتَ تظنّ أن لا شريكَ لضياعك!.
هكذا أصفُ مسيري على أرصفةِ دمشق منذُ سنواتٍ خَلَت، تلك المدينةُ التي إن سِرتَ في شوارِعِها، تغلغلتْ رائحةُ عظمَتِها في شرايينك. تسكُنُكَ حتى إن لم تسكنْها، تتواطأ مع فرَحِكَ، وتسرقُكَ منك. كان ذكر كلمة (قاسيون) أمامي، يجعلني أتخيّلُ أن للأرضِ الأنثى صدراً بارزاً شهياً على شكلِ جبلٍ يتراقصُ على مرأى من عيونِ البشر، ولا يحلمُ بحنانهِ سوى سقفُ السماء. كان ذكر تلك الكلمة يجعلني أتخيل منصةً عائمةً في الفضاء، تسبحُ دمشقُ في عمق امتدادها غيرَ مهتمّةٍ بانقطاع النّفَس، كان قاسيونُ يلوحُ دوماً في أفقِ رغبتي، أتمناهُ كما أتمنى حباً جارفاً يخترقُ سكونَ قلبي الحزين إلى أن أتت الصدفةُ بكامل أناقة ميعادِها. الوقتُ مساء، الجوّ باردٌ، دمشقيّ الصّخبِ والفرادة، الطريقُ متعرّجٌ واسعٌ، ودمشقُ بدأت تصغرُ كأنها تعودُ طفلةً في عيوننا. كلّما صعدنا قليلاً كنّا نكتشفُ المزيدَ من خفايا جسدها الشهي، فتظهرُ المناطقُ الأبعد المستلقيةُ هناكَ في سهلها، لكأنّ ذاكَ الجبل الشامخَ يمدّ يدهُ، ويسحبُ فستانها كلما ارتدى الفضولُ دهشةَ نظراتنا الجائعة!. الله هنا أقربُ، إلى القلبِ من السماء!.
أناسٌ، باعةٌ، مقاهٍ، عشاقٌ، وحكاياتٌ مع (أكسجينِ) النَفَسِ تدخلُ إلى رئتي، كنتُ ألهو وأضحك كطفلٍ أمامَ عينيهِ اللعبةُ التّي لطالما حلُمَ بها، أحسستُ أنني مشبعٌ بالحبّ حدّ العلوّ الشاهقِ لقلبٍ مصابٍ برهابِ النبض المرتفع!.
جلسنا هناك، في المقهى المطلّ على الدنيا كلّها، مسجونةً في مدينة! ( من قاسيونَ أطلّ يا وطني…) نعم تردّد بيت الشعرِ الخالدِ هذا في زوايا خيالي المسافرِ خلفَ تلك الأضواءِ اللامعة، كتبتُ في دفترِ رأسي ما يزيد عن ألفِ قصيدةٍ وأنا أرتشفُ قهوتي، ونسيتها كلّها مع آخرِ شفّةٍ مفجوعةٍ بفراقِ السحر!.
نعم رأيتُ دمشقَ كما لم ترها كل أحلامي الملهوفة، مارستُ معها فرحي دون أن أهتكَ عذريّةَ حزنِ الزمانِ العاشقِ تحت نوافذِ أمكنتها، رأيتُ من أعالي قاسيونَ زهرةَ ياسمينٍ تسلّمُ أنفاسها لعطرٍ شقيّ في زاويةٍ معتمةٍ من حيّ بعيد. رأيتُ المطرَ قبلَ وصولهِ إلى رؤوس البيوت، يطلبُ الإذنَ من عنفوانِها ليروي عطشَ الحب!. رأيتُ، من قاسيونَ، بعضَ السلامِ يتسرّبُ من شقوقِ دارٍ تتلقّفهُ الأرصفةُ كعابرٍ إلى كل قلبٍ أرّقَ شرايينهُ همّ الوقت!.
لم أعد يومها من قاسيون، عادَ ذاكَ الآخرُ الذي ولدَ بي وبقيتُ أنا هناكَ على ذاتِ تلك النظرة، متجمّداً في ثلجِ الدهشة، أنتظرُ شمسَ اليوم التالي أن تبزغَ من فجرِ مساءِ أمس الباقي أبداً في روحي الهائمة!.
في المدنِ المُزدحِمة، هناكَ الكثيرُ من الضّجيج الّذي يُفقدكَ القدرةَ على سماعِ صوتِ مناجاتِكَ، أو رؤيةِ ما تتعثّر به أقدامُك. لكن، في دمشقَ، أنتَ مزدحمٌ بكَ دائماً، تتكاثرٌ لسماعِ كلّ همسةٍ ورؤيةِ كلّ زاويةٍ نسيَ التاريخُ على خيوطِ عنكبوتها حدثاً ما. في دمشقَ، أنتَ أكثرُ من مشّاءٍ على الأرصفة، بمروركَ، بابتسامتكَ، بأنفاسِكَ، بدموعِكَ، تؤكّدُ للتّاريخِ خيارهُ الموفّق.
وسام محمد ونوس