ثقافة

صورة المقهى في الأدب

تتعدد الأمكنة، وتتنوع الأزمنة، وتختلف المدن والبلدان، لكن هناك مكاناً تلتقي فيه الأزمنة والأمكنة والمدن، وذلك من خلال التقاء أناس من مشارب واتجاهات وأمكنة مختلفة ومتنوعة بعدد أولئك الناس، هذا المكان هو المقهى.
المقهى مكان عام يجلس فيه الناس لشرب القهوة، أو الشاي، أو الزهورات، ولتدخين السجائر أو النرجيلة، فيه يجلس الناس من مختلف الأعمار، والأعمال، والفئات الاجتماعية، يتحادثون ويتناقشون بقضايا عامة أو خاصة، أو يطلقون المزح والنكات للترفيه والتسلية وتمضية الوقت، كانت المقاهي سابقاً هي الملتقى الوحيد للناس للتعرف على أحوال البلاد والعباد، وتخصصت بعض المقاهي حسب روادها، هناك مقاه للأدباء والكتّاب، ومقاه للصيادين، وأخرى للفنانين، وغيرها من شرائح المجتمع، كان ارتياد المقهى سابقاً حكراً على الرجال، ولكن مع تطور المجتمع والحياة، أُنشئت مقاه للنساء، ثم أصبحت المقاهي، والحانات، والكافيتريات مكاناً عاماً يرتاده الرجال والنساء.
تتعدد الروايات عن أول مقهى في العالم، منها رواية تقول: إن أول مقهى أنشىء في مدينة البندقية الايطالية، وهناك رواية أخرى بأن أول مقهى في العالم افتتح في دمشق عام 1530، والثاني في مدينة حلب عام 1532، والثالث في اسطنبول عام 1554، بعدما تقدم نتساءل: كيف عبّر الكتّاب والأدباء والشعراء عن علاقتهم بالمقهى أدبياً؟ وكيف نظروا إلى هذا المكان؟.
الروائي حنا مينه أعطى للمقهى حضوراً قوياً في رواياته، فهو مكان يلتقي فيه أبطال رواياته، مثلاً في رواية المستنقع، نجد المقهى عبارة عن مصيف في الجبل يقدم الشاي، والقهوة، والنراجيل، ظاهرياً هو مكان للتسلية وتمضية الوقت، إلا أنه، سراً، مكان للمقامرة وشرب المشروبات الروحية، في رواية (الياطر) نجد مقهى أو خمارة اليوناني (زخريادس)، وفي هذا المقهى “الخمارة” يطرد زكريا المرسنلي، بطل الرواية، همومه ومتاعبه، أما في رواية (المصابيح الزرق) فنجد مقهى (الشاروخ) برواده وأحاديثهم ومشاكلهم، وهكذا في بقية روايات الأديب حنا مينه.
الأديب المصري نجيب محفوظ، الحائز على جائزة نوبل للأدب، عُرف عنه ارتياده لمقهى ريش الذي كتب فيه الكثير من رواياته، وكان يلتقي فيه أصدقاءه من الكتّاب، ويتحدث في روايته (الحرافيش) عن مقهى الحرافيش، وقد وُضِعَ في المقهى تمثال للأديب نجيب محفوظ الذي كتب روايته «الحرافيش» فيه، و«شلة الحرافيش» اسم أطلقه الفنان أحمد مظهر على شلة من الأدباء والفنانين تجتمع في أحد مقاهي القاهرة، بينهم نجيب محفوظ.
الشاعر الفلسطيني صالح هواري كتب عن المقهى في قصيدة تحمل عنوان: (أعود إلى المقهى)، من مجموعة (لا تكسري الناي)، يقول:
إذا هزّ فيّ الوحي كأس رنينه
ألوذ بمقهى ضيق الصدر واسعِ
يسمونه في معجم الزهرِ “روضة”
وما زهرُهُ إلا حجار المقالعِ
أعود إلى المقهى أجزّ دخانَه
ومن قُطنِهِ الكحلّي أرصف شارعي
الشاعر صفوان صفر ألّف مجموعة شعرية تحمل عنوان: (دفتر الحانات)، والحانة أحد أسماء المقهى، يقول في قصيدة عنوانها: (الفوضوي)، يقول:
تماماً / مثل لفافة تحترق
فوق منفضة رخامية / في مقهى خاو يُطِل على العالم.
هناك مهن ارتبط حضورها مع المقهى، ووجودها في المقهى، منها مثلاً النادل، مجهز النراجيل، حامل النارة، الحكواتي، بائع اليانصيب، ماسح الأحذية، كما نجد في المقهى بعض المتسولين الذين يستعطفون الزبائن المنشغلين بأحاديثهم، وخير من عبّر عن أجواء المقهى هذه القصيدة (في المقهى) لأحد الشعراء، يقول:
في المقهى/ أجلس على كرسي الانعتاق
أمد نظري إلى مفرق الكون/ كما أمدّد رجليّ وأتمطّى
أتناول كأس الدهشة الساخن/ من النادل وكأنني أصافح (بريجيت باردو)
أتأمّل الصحيفة– انجيل المكان
أقلّبها على سرير الاعتياد كزوجة قديمة
هنا في المقهى/ يغفو الوقت في طاولة الزهر
في لعبة الورق/ في حديث منفلش بين أصدقاء
فجأة يداهمنا بائع اليانصيب أو ماسح الأحذية
كمؤذّن أخطأ مكانه/نتجاهله بحديث منطقي عارض
في جلسة ركلت كرة العقل المنطقية
بحذاء السخرية العتيد/في المقهى/أخرج من جلدي
من روحي/ وأدخل في كهنوت الكسل.
هناك عدد من الكتب التي تم تأليفها عن المقاهي ودورها الأدبي والثقافي، منها كتاب (المقاهي الأدبية في باريس حكايات وتاريخ) للأديبة هدى الزين، وقد ورد في الكتاب ما يلي:
“المقاهي الأدبية في باريس هي المكان المفضل الذي يرتاده كبار الأدباء والشعراء والمفكرين والفنانين، وتعد باريس مدينة المقاهي بلا منازع، منها خرجت تيارات أدبية وفنية وفكرية، وقد برز دور المقاهي أواخر القرن التاسع عشر وأوائل العشرين، إذ تحولت إلى مؤسسات ثقافية وسياسية يجتمع فيها الأدباء والشعراء والسياسيون، وفي بعض المقاهي تعلّق لوحات بملايين الدولارات، كان الرسام يمنحها للمقهى مقابل القهوة التي يرتشفها”، أما عن علاقتها بالمقهى فتقول: أنا عاشقة للمقهى أكتب فيه وأتأمل وألتقي بالأصدقاء وأتعرف إلى الناس، نجلس في المقهى كأصدقاء من مختلف الأجناس، نتناقش ونكتشف عوالم لآخرين مرّوا قبلنا في تلك المقاهي التي تحولت إلى ملتقيات أدبية.
عماد الدين إبراهيم