ثقافة

عدنان المفتي.. التناغم بين الأصالة والتحديث

صنع العمارة الدمشقية

بعد ستة عقود من العمل على ترميم آثار أقدم عاصمة عرفها التاريخ وحفظ أبوابها ومدارسها ومساجدها، معيداً الحجارة المتناثرة إلى ما كانت عليه في عهد الحضارات المتعاقبة على سورية، وبعد أن درّس جيلاً من المهندسين كانت لهم إنجازات عالمية، وساهموا معه بترميم آثارنا.. المعمار عدنان المفتي الذي وُصف بمفتي آثار سورية بعد أن صمم أكثر من مئة وعشرين مشروع ترميم، كُرم في ندوة حوارية، أقامتها مديرية الثقافة في دمشق بالتعاون مع مديرية التراث الشعبي بعنوان (ستون عاماً بين الأثر والحجر) – في المركز الثقافي – “أبو رمانة”- بإدارة الإعلامي المعمار ملهم الصالح، ليكون المحور الأساسي في الندوة من خلال إجابات المفتي وشرحه عن مشروعاته.

اعتمد الصالح على عرض صور فوتوغرافية، توثق عمليات الترميم لأهم المشروعات التي رُممت، إضافة إلى بعض الصور التي توثق المشهد قبل الترميم وبعده.

روح العصر

استهلت الحديث السيدة أحلام الترك، مديرة التراث الشعبي، بالإشارة إلى أن تكريم المعمار عدنان المفتي لما قام به بالترميم الذي يدخل في صميم التراث اللامادي لما فيه من صدق واستنطاق لروح العصر الذي أُشيد فيه.

مئذنة الشحم

وبدأ الإعلامي ملهم الصالح بالحديث مع المعمار عدنان المفتي -مواليد دمشق 1934- عن مراحل حياته منذ ولادته في حي القيمرية، ثم دراسته الجامعية بفرع (ر-ف-ك)، وسفره إلى فرنسا لدراسة الهندسة، وعودته إلى الوطن عام 1958، واشتغاله بمديرية الآثار، إضافة إلى التدريس بكلية العمارة ليرتبط مع طلابه بعلاقة وجدانية.

جامع شيخ رسلان

كما استضاف الصالح المعمار وليد السيروان أحد طلابه المقربين، الشغوف بالفن والتشكيل الذي وصف العمارة بأنها جامعة لكل الفنون، وتحدث عن علاقته بالأستاذ المفتي التي بدأت منذ لقائه معه بالمتحف الوطني وفي الكلية، ثم تحدّث عن الصور الفوتوغرافية التي عرضها الصالح على الشاشة عن المشروعات المشتركة التي عمل بترميمها مع أستاذه مثل جامع شيخ رسلان، وباب توما ومدخل لمتحف، وغيرها كثير، ليخلص إلى أن أستاذه  كان مفتياً بفنون العمارة، فما من معضلة إلّا ويجد لها الحل المناسب، وركّز على علاقته مع طلابه بقوله “زرع في نفوسنا حبّ الوطن وحبّ التراث وحبّ العمارة”.

فتحات باب شرقي

وتابع الصالح الحديث مع المفتي عن مفاهيم الترميم بأنه عملية متخصصة بدرجة عالية وهدفها حماية وكشف القيمة الجمالية والتاريخية للمبنى، في حين تطورت وتباينت مفاهيم الترميم في منتصف القرن التاسع عشر، إذ اعتُبر ضرباً من الجنون، وعُرّف في عام 1849كأخطر أنواع الخراب، بينما ذكر الناقد الفرنسي”بروسبير بريميه” بأن الترميم يعني الصيانة للمحافظة على ما هو موجود، كمدخل لمناقشة أهم المشروعات التي رممها باب شرقي، وهو أحد أبواب دمشق، حيث أوضح المفتي بأنه بعد الدراسة تبيّن بأنه لابد من كشف هذا الباب الذي يتألف من ثلاثة أقسام وقوسين جانبيين، وكان قبل الترميم فتحة واحدة هي المنفذ الوحيد للاتصال بين الداخل والخارج، فاتبع أسس المدرسة السورية للترميم وإعادة المبنى إلى ما كان عليه في العصور القديمة العائدة إلى الزمن الروماني وقد صممه، أبولودور الدمشقي.

المدرسة الجقمقية

ومن المشروعات التي سأل عنها الصالح المفتي كانت المدارس فتوقف عند المدرسة الجقمقية التي تعود للعصر المملوكي والتي أصيبت أثناء القصف الفرنسي عام 1945 وكانت أول عمل كُلفتُ بترميمه بعد عودتي من فرنسا. ليتوقف المفتي عند فكرة هامة جداً وهي الفرق بين الترميم في سورية وفي أوروبا، ففي سورية يتم الترميم والتأهيل وإعادة الحياة مرة ثانية للبناء ليتم استخدامه، مثل الجامع الأموي، ليصل المفتي إلى ترميم المدرسة الحافظية في الميسات والتي كان ترميمها من نوع مختلف، لأن مكانها قرب الحديقة والمحافظة طالبت بإزالتها، فأضاف: اتصلت بأساتذتي في فرنسا، ووجدنا الحل بنقل المبنى كاملاً إلى الحديقة وأحضرنا الحجارة من النوع ذاته من الأردن، وأعيد بناء المبنى كما كان وأخذته الجمعية الجغرافية التي تأسست عام 1956..

كما استضاف الصالح المعمار زهير حلاق من تلامذة الأستاذ المفتي وتحدث عن ترميم المدرسة العدلية الكبرى التابعة لمجمع اللغة العربية، والواقعة قرب الجامع الأموي في عام  2002بالاشتراك مع أستاذه المفتي وفيها قبر الملك العادل الذي أمر ببنائها وخصصها لتدريس اللغة العربية منذ تأسيسها وأُعيدت إلى مجمع اللغة العربية، ثم تحدث عن ترميم المدرسة العمرية، ليخلص إلى أن أستاذه المفتي شخصية لن تتكرر من حيث الأسلوب الفني، والغزارة العلمية، وتابع الصالح الحديث عن إسهامات المفتي في ترميم قلعة حلب، وشيزر، ومشروع ترميم الرصافة الذي لم يكتمل، ومدرج بصرى الذي وصفه المفتي بأنه معلم من معالم الحضارة الإنسانية، حيث تمكنت سورية بإمكاناتها البسيطة من ترميم هذا المدرج الحضاري.

 

تترابيل تدمر

وتابع الحديث الباحث حسان نشواتي الذي كان من تلامذة المفتي، وأصدر الجزء الأول من موسوعة القيمرية بعنوان: “من حارتي القيمرية” الذي قدم له د. مازن مبارك، ووصف أستاذه المفتي بالفنان الرسام الباحث العالم، وتحدث عن ترميمه تترابيل تدمر التي كانت أحجاراً متناثرة، ولم يستطع أحد أن يرممها، وإشكالية الترميم– كما ذكر نشواتي- كانت برفع الأقسام العلوية إلى أماكنها الأصلية، وصارت صورة تترابيل تدمر على العملة السورية، وعلى البطاقات البريدية.

 

خير صديق

ومسك الختام كان في استضافة وشهادة الباحث بشير زهدي الذي تعرف إلى الأستاذ المفتي أثناء إيفاده ببعثة إلى فرنسا، وبدأت صداقة وطيدة بينهما، ثم تحدث عن إنجازاته بمديرية الآثار بعد عودته بعملية ترميم المباني الأثرية والتاريخية، ورأى أنها عملية إسهام وتعاون في سبيل إنقاذ هذه المباني من الزوال، كما أنها عملية إغناء لزيادة عددها في قائمة التراث الثقافي، ما يسهم في ازدهار السياحة، ويذكر بمنجزات الأمم، وقراءة أمجاد الماضي، ليتابع الحديث عن علاقات المفتي الاجتماعية، ويصفه بأنه كان خير صديق للجميع.

بيت فخري البارودي

وختم الصالح الندوة بالحديث عن ترميم بيت فخري البارودي، متوقفاً عند رسالة صوتية من د. موفق دغمان المقيم حالياً في الرباط الذي تحدث عن إسهاماته بترميم بوابة قلعة حلب، ومصلبة تدمر التي استطاع إنقاذها بشجاعته، وعن عشقه لفنون العمارة الكلاسيكية وقواعدها، وعن صدى صوته في قاعة مكتب عنبر، يعلو مدافعاً عن تاريخ دمشق، وتشهد له مخططات مدرسة العدلية الكبرى بخبرته، ووصف المفتي بأنه مفتي عمارة دمشق، ليخلص الصالح في نهاية الندوة إلى أن عدنان المفتي ناغم بين الأصالة والتحديث.

ملده شويكاني