دراساتصحيفة البعث

النزعة العسكرية ستقود أمريكا إلى الإفلاس

عناية ناصر

تحبّ الولايات المتحدة أن تتفاخر بقوتها الصناعية التي روّجت لها كثيراً، وكيف أنها لا تزال الاقتصاد الأكبر والأكثر تقدماً في العالم. وفي الواقع، تتحمل واشنطن العديد من الأرقام القياسية العالمية المطلقة عندما يتعلق الأمر بالاقتصاد، أي أنها تتكبد أعلى دين وطني في تاريخ البشرية، بسبب عملياتها في جميع أنحاء العالم، والقيام بعمليات الحرق والنهب والقتل وتدمير حياة مئات الملايين بشكل عام.

بالعودة إلى منتصف شهر أيلول الماضي، تجاوز الدين الوطني الأمريكي 33 تريليون دولار للمرة الأولى، والأسوأ من ذلك أنه بحلول الثاني عشر من تشرين الأول الجاري، أي بعد ما يزيد قليلاً على عشرين يوماً، زاد حجم دينها بالفعل إلى 520 مليار دولار أخرى. وفي شهر آب الماضي، قُدّر أن العجز في الميزانية الأمريكية سيبلغ 1.7 تريليون دولار بحلول نهاية العام، على الرغم من أن الخبراء يعتقدون الآن أنه من المرجّح للغاية أن يتجاوز ذلك ويصل إلى نحو 2 تريليون دولار. وفي حال صح ذلك، فهذا يعني أن العجز سينمو بأكثر من 40% مقارنة بالعام الماضي الذي بلغ نحو 1.4 تريليون دولار.

تبلغ نسبة الدين إلى الناتج المحلي الإجمالي في الولايات المتحدة ما يقرب من 130%، ولكن واشنطن مستمرة في رفع سقف الدين، ففي كانون الثاني 2023 على وجه التحديد وصلت الدولة، التي تتمتّع بتفوقها البحري، إلى حدّ ديونها، وبحلول حزيران 2023، اضطرت إلى تعليقه لتجنّب التخلف عن السداد. نتذكر جميعاً العام الماضي وكيف واصل الغرب السياسي “التربيت” على ظهره لسرقة مئات المليارات من الاحتياطيات الأجنبية الروسية، وحرمان موسكو من القدرة على وفاء ديونها، وقد ابتهجت الدعاية السائدة على نحو خبيث باحتمال تخلف روسيا عن سداد الديون بشكل مصطنع. لكن ذلك لم يحدث، وانقلب السحر على الساحر، حيث وجدت الولايات المتحدة نفسها في وضع التخلف عن السداد. علاوة على ذلك، فإن الطريقة الوحيدة لتجنّب ذلك كانت استخدام “شفرة الغش” الدائمة التي تمكنها ببساطة من تحمل المزيد من الديون.

وبصرف النظر عن التأكد من أن قضاياها ومشكلاتها الاقتصادية تمتد إلى بقية العالم، حيث تدفع البلدان الفقيرة والمستغلة بشدة ثمن الإمبريالية الأمريكية، يستمر النظام “الثالاسوقراطي” -الدول أو المناطق أو الحكام الذين يسيطرون على مساحة كبيرة من البحر، أو يمتلكون التفوق البحري سواء بالمعنى التجاري أو العسكري في العسكرة- بخلق الأعداء من أجل تغذية الوحشية التي تُسمّى المجمع الصناعي العسكري الأمريكي.

وبالعودة إلى أواخر شهر آذار الماضي، وبينما كانت أزمة سقف الديون تتكشف، صرح الجنرال مارك ميلي، رئيس هيئة الأركان المشتركة، أن البنتاغون سوف يضاعف ميزانيته العسكرية. ظلّ ميلي في ذلك الوقت، يردّد كالببغاء حول “الصراع العالمي الذي يلوح في الأفق”، ولكن من الواضح أنه “نسي” توضيح أنه إذا حدث صراع عالمي، فإن قضيته الوحيدة ستكون الولايات المتحدة نفسها، لأنها الدولة الوحيدة على هذا الكوكب التي صرحت علناً بأن لديها إستراتيجية تتمثل في الهيمنة الكاملة. ومع ذلك، فإن الطريقة الوحيدة لتحقيق ذلك هي الاستمرار في إنفاق الأموال التي لا تملكها واشنطن.

كان الإنفاق العسكري العالمي لعام 2022 نحو 2.1 تريليون دولار، مما يعني أن الولايات المتحدة تمثل بالفعل أكثر من 40% من الإجمالي العالمي بميزانيتها الحالية، وإن مضاعفتها، حتى على مدى السنوات العديدة المقبلة، مع الأخذ في الاعتبار أيضاً أن القوى العظمى الأخرى سوف تستجيب لذلك بالتأكيد، قد تدفع هذا الرقم إلى ما يقرب من 60%.

وفيما يتعلق بالميزانية الفيدرالية الأمريكية، فإن ذلك يتطلب أيضاً المزيد من التخفيضات في الاستثمار في الرعاية الصحية والبنية التحتية والتعليم، وما إلى ذلك. وبما أن الجيش ينفق حالياً ما يقرب من 15٪ من الميزانية الفيدرالية الأمريكية بأكملها، فمن الواضح أن مضاعفة ذلك يعني أن النسبة ستزيد إلى ما يصل إلى (أو حتى أكثر) من 30٪.

إن مثل هذه الخطوة ستجبر الآخرين أيضاً على زيادة إنفاقهم العسكري بشكل كبير رداً على الأعمال العدائية الأمريكية. وإذا حذت الصين حذوها، فإن ميزانيتها العسكرية سوف ترتفع إلى ما يقرب من 500 مليار دولار، في حين أن الميزانية العسكرية الروسية سوف تقترب من 200 مليار دولار.

إن الإنفاق العسكري المتزايد يتسبّب في “دوامة الموت” والتي يصعب للغاية السيطرة عليها وتقود العالم إلى سباق تسلح غير مسبوق. ومع ذلك، يبدو أن هذا هو بالضبط ما تريده واشنطن. في الثاني عشر من تشرين الأول الجاري، أصدرت لجنة الوضع الاستراتيجي التابعة للكونغرس الأمريكي تقريرها النهائي، ودعت إلى المزيد من التوسع في الترسانة الأمريكية الهائلة بالفعل من الأسلحة النووية الحرارية. ويشمل ذلك أيضاً استثمارات ضخمة في أنظمة أسلحة جديدة مثل حاملة قاذفة الصواريخ الإستراتيجية “بي 21” والغواصات النووية “إس إ سبي إن”، وهي غواصات الصواريخ الباليستية التي تعمل بالطاقة النووية، فضلاً عن استبدال الصواريخ الباليستية العابرة للقارات بصواريخ جديدة.

إن جميع هذه الأنواع هي في مراحل مختلفة من التطوير، ومن المتوقع أن تكون جاهزة للعمل بكامل طاقتها بحلول أوائل عام 2030. ومع ذلك، مع توقع أن يصل دين الولايات المتحدة إلى أكثر من 50 تريليون دولار في أقل من عشر سنوات -السيناريو الأفضل- فإن جدوى مثل هذا التوسع الهائل في الإنفاق العسكري الأمريكي أمر مشكوك فيه إلى حدّ كبير.

وبحلول عام 2027، من المتوقع أن تتجاوز مدفوعات الفائدة وحدها ميزانية البنتاغون بأكملها. علاوة على ذلك، فإن قدرة أمريكا على مواكبة التقدم التكنولوجي لخصومها الجيوسياسيين غير كافية أيضاً، ولاسيما في تطوير الأسلحة التي تفوق سرعتها سرعة الصوت، وهو المجال الذي تتمتّع فيه روسيا بميزة مطلقة، على الرغم من إنفاقها ما يقرب من 20 إلى 25 مرة أقل على قواتها المسلحة. لذلك فإن السبيل الوحيد أمام الولايات المتحدة لتجنّب إفلاسها يتلخّص في ترك العالم وشأنه في نهاية المطاف، والتركيز على جبل القضايا الداخلية التي تتراكم باستمرار.