ثقافة

في حوار حول تجربته الفنية بديع جحجاح: التركيبة التشكيلية سيكون لها حصتها في تاريخ سورية

فنان متفرد بامتياز.. وأمير اللوحة وسلطان الفكرة، صنع بفنه مملكته الخاصة في فضائه الأرحب حيث لا قانون إلا قانونه ولا مفردات إلا مفرداته، ومع أنه عمل على بعض المفردات التي لها علاقة بالدين، لكن جوهر بحثه كان يسعى لمنظومة تنتمي للفكر المعاصر وتستقي نبضها من روح الشرق العتيق للتوصل إلى رمز إنساني كوني يتفق عليه كل أبناء العجينة الإنسانية، ولذا ما فتىء الفنان التشكيلي بديع جحجاح يرسم خطوات واثقة لتحقيق بصمة تتحدى الزمان، وهو الذي ما إن نسمع باسمه حتى يتراءى لنا “جوهر” الرمز الذي خلقه جحجاح وتخرج معه رباعيته “أفلا يتفكرون”التي أصبحت منهجاً لكثيرين، مثلما أصبح “دوران “عنواناً نعيشه في حياتنا اليومية دون أن ندري، وإن كان جحجاح هو من ابتكر كل هذه العناوين الخلاقة فكيف من الممكن لقلب نابض بكل هذا الإبداع أن يتوقف عن العطاء،
وما هي إضافته الجديدة وما رأيه بسوق اللوحة الفنية في ظل ما نعيشه إضافة إلى موضوعات أخرى تمس صميم الفن التشكيلي وقفت “البعث “عندها في الحوار الذي أجرته معه، وكان لابد من المرور بإبداعات جحجاح المتتالية  للتعرف إلى رؤيته الخاصة، والتي تقول إن أي نص جميل مهما كان شكله دينياً أو غير ديني ويخدم الإنسان والحضارة الإنسانية هو آية مقدسة، والاستعارة التي اقتبستها من التاريخ والتي هي الدرويش الذي أبدعه شمس التبريزي وجلال الدين الرومي في توليفة كونية بطلها الإنسان، وتعتمد على فيزياء الضوء والطاقة التي يأخذها الدرويش من الله في علاه، ويبذرها بتعاليم مليئة بطاقة مقدسة إيجابية في الأرض هي حالة إنسانية راقية يتجلى فيها الأخذ من الخالق والعطاء للعباد.

رمز الدرويش
ويوضح جحجاح أن مشروع “دوران” كان نبضة فكرية استخدمت تقنيات التشكيل والفن بطلها الدرويش ونصها تحولات النقطة التي  تسعى لتكريس مفاهيم وعي مختلفة، فالفنان اليوم يحمل هم تكرّيس الجمال أمام العنف ليتحول الجمال إلى رسالة فيها بعد فلسفي للأجيال الجديدة، ويتحول الدرويش من صورة إلى رمز وقد سمينا هذه الرموز “رباعية أفلا” التي سعت لإعادة تكوين بنى اجتماعية جديدة، مشيراً إلى أنه في تركيباتنا الشرقية حضور الترميز أعلى من المشهدية والصورة، لذا كان تحول الدرويش لأيقونة ورمز ضرورة، ولاسيما أنه في دوران واحد تم التعرف إلى شخصية الدرويش كحالة جمالية  وبشكل واضح، لكن في “دوران 2” صار البحث أعمق وأصبحنا نرى الدرويش بتفاصيله وليس بكله فقط، ويتابع جحجاح: في مشروعنا التالي تحول الدرويش إلى مجرد رأس في إشارة إلى فناء الدرويش كتجسيد كلي في مكان الحواس، وإلى أن الرأس المقدس يتم تحويله والتحكم به فتحولت اللوحة إلى طربوش فقط  وأجزاء من كتفه الأبيض، لنؤكد أن الإنسان هو ناتج ما يفكر فيه وهو تابع للأفكار التي يغذى بها.
وفيما يخص حساسية اختيار جحجاح لـ”الدرويش” باعتباره رمزاً دينياً يرى أنه لم يعد هناك تركيبات صافية ونقية، فنحن نعمل على إعادة صياغتها، فالدرويش موجود لكننا قمنا بعمليات تحوير وتبسيط  للوصول إلى رمز يختصر أفكارنا من خلال النص الذي يقوله “جوهر” فالغاية الوصول إلى رمز كوني وليس ديني، لنشير من خلاله إلى أن المقدس هو الإنسان وسلوكه.

قيم الفن
وبما أن الأزمة السورية أرخت بكاهلها على كل مفاصل الحياة فمن غير الممكن أن يقف الفنان على الحياد حتى مع الفن، لكن جحجاح  اعتبر أنه كما يمنح السلم طاقة، تمنح الحروب طاقة مضاعفة، لافتاً إلى أن الخوف وعدم الأمان لوثة إما تؤدي إلى إحباط  كبير أو إلى ناتج فني مهم، وهو يولد في عدم الاستقرار، منوهاً بأن فنان الأزمة المتأثر بالوضع العام لن يكون فناناً يكرر نفسه وتركيباته ولن نستطيع عزله عن الواقع، كذلك ليس من الممكن أن يكون مـتأزماً نفسياً لدرجة أن يختار الصمت، لذا فإن التراكمية الزمنية هي التي ستحدد وتقوم بعمل “غربلة” خصوصاً وأن التركيبة التشكيلية سيكون لها حصة في التاريخ وسنعرف ما جرى في سورية من خلالها، فنحن نرى فنانين وثقوا مشاهد العنف والبشاعة والقتل، مؤكداً على أهمية أن يكرس الفن على الدوام مفاهيم متعلقة بالجمال فهو اللغة السائدة الدائمة، أما القبح فلن يكرس إلا ذاته مع ضرورة التزود بالمعارف والتحرر من أي فكرة، والانتماء فقط للكون الفسيح والقيم الإنسانية الجمالية، لافتاً إلى أن خلال الأزمة كثيراً من الناس فقدوا إنسانيتهم وتحولوا لنسخ متشابهة وخالية من الإبداع وتنتمي لتعاليم مغلقة، لذا فإن مفهوم الفن خلال الأزمة سيكون مفهوماً منقوصاً إذا كان يخدم ذاته فقط، ويجب أن يكون له قيم اجتماعية يصدرها عبر جسر الجمال من خلال رموز ولغة فيها حوار اجتماعي مهم.

ألف نون ..الفنون
ويتجلى طموح جحجاح الذي  يتخطى الحدود في فكرته القادمة “ألف نون” التي يخبرنا عنها قائلاً: “ألف نون” هو غاليري وصالة عرض يقدم فيها الفنان لوحتين، فهي تعتمد على تكريس الثنائية وفكرة التضاد (الأسود والأبيض ، الخير والشر.. وهكذا) فالفكرة هي تقديم عملين كجزء من هوية الفن، وهو مشروع ناتج عن دوران اسمه “ألف نون الفنون…وروحانيات” ويضم ثلاث نقاط هي الروح والنفس والجسد بما فيه من اندماج كيميائي عالي اللهجة يكوّن الفنون، أما عن لماذا ألف نون؟ يجيب جحجاح: الـ “ألف نون” لها ارتباطات بذاكرتنا المهمة فهي في بداية الإنجيل ونهاية القرآن، وبإضافة حرف السين يتكون الإنسان، فالغاية من “ألف نون” توظيف كل المركب الفني وتوجيهه، ونحن اليوم بحاجة للتوجيه في البدايات لخلق نبضة روحانية وبحاجة أمام هذا العطب الروحي لمن يقودنا لمحطة لطيفة بعيدة عن الآلام، لافتاً إلى أن حاجتنا للصالات تزداد أمام انهزام الصالات في الحرب وإغلاق معظمها وقلة المتذوقين للفن وهجرة رؤوس الأموال التي كانت تقتنيه وغياب الجمهور الحاضن له، وسيرافق “ألف نون” قاعدة بيانات لكل فنان تمكن الجمهور من التواصل معه. ومن وجهة نظر جحجاح فإن وسائل التواصل الاجتماعي ستكون الحل كبيئات افتراضية يستطيع أي كان زيارتها، فهي تقدم معلومات عن الفنانين وسيرتهم الذاتية ولوحاتهم لكل من يريد اقتناء هذه الأعمال التي ستكون أسعارها مقبولة، وسنحاول أن نوظفها في خدمة المجتمع ودعم الجمعيات الأهلية، لأن غايتنا ليس البيع بل نشاط الفنانين بحد ذاتهم كحالة من الحضور والتواجد في هذه الظروف.

صالات وإعلام
كذلك لـ “جحجاح” رأيه الخاص بطريقة تعامل الصالات بشكل عام مع الفنان إذ عليها أن تعتني بالفن دون أن تسلب الفنان حريته وتقوم باحتكاره وتحويله لسلعة، فالصالات الحقيقية لا تملك مجموعة فنانين فقط بل تعيش حالة بحث متواصل عن كل ما هو جديد لتدخله إلى عالمها، ونوه بضرورة أن يحتضن الإعلام الفن احتضاناً راقياً خلاّقاً ومثمراً ضمن تشاركية يقرأ فيها كل جزء من النصوص بطريقة تتحول لمصفوفة مهمة مع الزمن.

دعم الشباب
وعن ضرورة توجيه الاهتمام لجيل الشباب وتقديم كل الدعم اللازم لهم يلفت جحجاح إلى أن  الشباب يعيشون حالة ضياع وفقدان للهوية والانتماء، لذا نحن بحاجة لبناء منظومة تخلق أبجديات جديدة أساسها القطاع الفكري واحترام الفنان وإنتاجه الإبداعي، وإعادة بناء منهاج جديد وتوليفات جديدة، وفي مشروعنا الجديد “جوهر” نؤسس لمنظومة اجتماعية أهلية مع مجموعة من الشباب تعتني بالقطاعات الفنية وتدعم الحالة الثقافية من خلال (إقراض النقود، دعم فرق موسيقية وإنجاز معارض) فـ “جوهر” يعمل كمؤسسة ضمن مشروع اجتماعي إنساني وطني ثقافي فكري مبني على  مواجهة الأزمة بأفكار مبنية على الرحمة والتسامح عبر جسر الفن والمقدسات الشرقية الأزلية العتيقة.

سوق اللوحة الفنية
وعلى الرغم من كون سوق اللوحة الفنية ضعيفاً عالمياً، إلا أن حاله تبقى أفضل من حاله محلياً – حسبما ذكر جحجاح – ومع أن الجو العام قبل الأزمة كان متصاعداً ومبشراً إلا أن  الذائقة الفنية اليوم تعاني مشاكل خطيرة أهمها أن فكرة انتقاء لوحة هي فكرة غريبة وليست فعالة وغير مدعومة إعلامياً، مشيراً إلى عدم تسليط الضوء على من يقتني اللوحة  بالإضافة إلى عدم الوعي بأهمية الفن وعدم اهتمام وزارة الثقافة  بفنانيها.
لوردا فوزي