ثقافةصحيفة البعث

المسرح ودوره في تشكيل المستقبل على طاولة “ملتقى الشّارقة للمسرح العربي”

نجوى صليبه 

في دورته التّاسعة عشرة، اقترح القائمون على “ملتقى الشّارقة للمسرح العربي” الذي أقيم بالتّزامن مع مهرجان “دبا الحصن للمسرح الثّقافي” أن تكون أوراق عمل المشاركين حول دور المسرح في تخيّل واستكشاف أو تشكيل المستقبل، أي هل يمكن الوقوف على صورة ما ينتظرنا في الأيّام القادمة؟ تقول نور الحريري ـ ماجستير في الفلسفة من سورية، والتي قدّمت ورقة عمل بعنوان: “المسرح العربي بين الحداثي والحَدَثي”: “يفرض الحديثُ عن المسرح وعلاقتِه بالمستقبل الحديثَ عن الزّمن، والحديث عن الزّمن هو شأن فلسفي خالص، ما يسلِّط الضّوء على العلاقة الحميمية الأصيلة بين المسرح والفلسفة”، متسائلةً: “هل نستطيع التّوجّه إلى المستقبل من خلال عمل مسرحي معيّن؟ هل نقاطع الماضي؟ أم نعود إلى الماضي، إلى المنجَز التاريخي المسرحي، فنستشفّ المستقبل من خلاله؟ في الحقيقة، أرّقت هذه الأسئلة دارسي المسرح والفلسفة في العالم كلِّه، لكنها شغلت المسرحيين العرب بصورة خاصة، بسبب عبء التّاريخ وحمل الموروث الثّقافي الثّقيل في المنطقة العربية، والرّغبة في تشكيل مسرح عربي، بملامح خاصة وهوية خاصة”.

وتنتقل الحريري إلى التّيارات العربية التي تنطّحت لهذه الأفكار، موضّحة وجود كوكبة من المسرحيين العرب تدعو إلى استلهام عناصر مسرحية عربية من التّاريخ، مدفوعةً برغبتها في تأسيس مسرح عربي، لتبرز بوضوح العلاقة الإشكالية بين سؤال المستقبل وسؤال تأسيس مسرح عربي، ثم ظهور كوكبة ثانية تنقد الأولى وترى أنّ تشكيل مسرح عربي لا يقتضي بالضرورة العودة إلى الماضي، فدعت إلى إحداث قطيعة مع التّاريخ لتشكيل مسرح عربي يتوجّه نحو المستقبل، وبين هاتين، ظهرت كوكبة ثالثة تدعو إلى التّمسّك بالرّاهن، فكانت انعكاساً لحظياً ومباشراً للواقع السياسي والثقافي العام.

الدكتور يوسف أمفزع أستاذ التعليم العالي المساعد بجامعة الحسن الأول كلية اللغات والفنون والعلوم الإنسانية في مدينة سطات ـ المغرب، تحدّث عن مفارقات المسرح المغربي المعاصر بالقول: “تناهى المسرحيون في المغرب إلى اختيار المغايرة بوصفه توجّهاً استراتيجياً، لا يُحدث قطيعة مع “ريبرتوار” القرن العشرين، حيث إنّ الممارسة المسرحية في مطلع الألفية الثّالثة تَعِي إمكانياتها، بما في ذلك فاعلية التّكوين وتعدّد مشاربه، وتنوّع تخصّصاته، والرّغبة في التّكامل مع المحيط الفنّي والثّقافي الذي يتغذّى منه المسرح، والمآل الاقتصادي المنفرد بتحديد العلاقة بين المستقبل ذي التوقعات، والمستقبَل الكمين بإفراد الخالد من الأعمال الفنية والمتساقط من ركبها، المساهم في السيرورة التراكمية فحسب، وهكذا، حافظ شباب المسرح المغربي على مجاوزة أنفسهم في كلّ تجربة، ما أدّى إلى تراجع “يوتوبيا الاحتراف” لمصلحة امتزاج ساحر بين “المعهد”، و”الجامعة”، و”الجمعيات”، و”المؤسسات الخاصة” النّاتجة عن مبادرات فردية، ومهرجانات تسعى إلى الاستمرارية، ثمّ برزت إلى الساحة إنتاجات أرغمت النّقد على تغيير رؤاه المنهجية التي لن تزيد هذا الإبداع “ما بعد الحداثي” إلّا إلغازاً، لأنّ أعمال هؤلاء المخرجين الشّباب أعادت ترتيب الاهتمامات التّنظيرية للنّقاد أنفسهم، وخلخلت خلفياتهم الإبستيمولوجية على السواء”.

ويقدّم أمفزع عيّنات من العروض المسرحية المغربية، متخذاً من “جماليات التلقي” في شقيها التّاريخي والتّفاعلي مقاربة لقراءته، وتتمحور هذه العينات حول تجارب مخرجين شباب، والمواكبة المسرحية والكوريغرافية للتّراث الأمازيغي في الجنوب، كما يقدّم صورةً عن مسرح الاحتراف والهواة فيقول: “حاول كثير من المسرحيين المغاربة في مرحلة الصّراع بين المسرح الاحترافي ومسرح الهواة، سبعينيات وثمانينيات القرن الماضي، الاستفادة من تاريخ المغرب الممتد وما يكتنفه من حكايات، وشخصيات، وأحداث، وفرجات شعبية، وما إلى ذلك، لكن أغلب النّصوص والعروض النّاتجة عنها، تقوقعت ضمن ثنائية “التّأصيل” التي تقدّس كل ما يحتويه التّراث من دون وجهة نظر أو موقف، أو “التّغريب” الذي يسعى أهله إلى إحداث قطيعة إبستيمولوجية مع الماضي، والتّبعية المرضية للحداثة”.

إلى قوله: “لا غرو أنّ المجتمع المغربي والعربي بعامّة، لم يعش الحداثة الصّناعية بكلّ تمفصلاتها وتمظهراتها، إنّما نعيش التحديث وحالة ما بعد الحداثة كما يصفها “جان فرونسو اليوتار”، في عصر تكنولوجيا المعلومات، تصير مسألة المعرفة الخالصة متجاوزة، بقدر ما يغدو سؤال النّقد أحرى بالمواكبة، حيث إنّ إعادة التّفكير في طبيعة المعرفة ذاتها، يقتضي الاختيار بين معرفة “تكنولوجية” أو “نقدية”. ونظراً لكون الظّاهرة المسرحية ذاتية بالأساس، فإنّنا ننتقل إلى حتمية مواجهتها بالمعرفة النّقدية الإنسانية التي تتجاوز الكائن نحو الممكن”.

ثورة تكنولوجية تفرض علينا أن نواكبها، وربّما نغيّر بعض مصطلحاتنا ومفاهيمنا ومنها تعريفنا للمستقبل، يوضّح النّاقد والكاتب المسرحي التّونسي الدكتور حمدي الحمايدي أنّ التّطوّر التّكنولوجي والمعرفي أدّى إلى تعريف المستقبل بصفته تسلّحاً واستعداداً لما قد يحدث في المستقبل، وأنّه علينا استشراف ما يمكنه جعلنا قادمين على التّعامل مع ما سيحدث من دون التّغافل عن قوانين الزّمن والطّبيعة، ما يشكّل برأيه سبباً للتّكلّم عن نشأة علم المستقبل الذي من سماته الاعتماد على آليات تتمثّل بمعطيات اجتماعية وثقافية وما تمتلك العلوم من شبكات وتقنيات، والملاحظة والاستشكاف.

ويقدّم الدكتور عبد الله المطيع أستاذ التربية الفنية بكلية علوم التربية جامعة محمد الخامس الرباط، مثالاً عن استشراف المسرح المعاصر مستقبل ثقافات الفرجة من خلال مقاربة جمالية لتجارب مسرحية مغربية، معتمداً ثلاثة نماذج معيارية من الوعي المسرحي المعاصر، الأوّل: منظور مستقبلي لثقافة الفرجة ـ نسبةً إلى المدرسة المستقبلية في الفنّ، وهو منظور يبحث في إمكانات التّحديث في ثقافة الفرجة باستدماج التّكنولولوجيا الرّقمية للواقع المعزز والمندمج في صناعة الفرجة ـ كما يوضّح ـ، والثّاني: منظور عدمي  يتنبأ بأفول ثقافة الفرجة في ضوء نظام فرجة يعوّض الفرجة الفنية ببنية إيديولوجية للتّخصيص والتّحكّم في المشاهد، أمّا الثّالث فنقدي يعيد النّظر في مفهومي المشاهدة والحكي، سواء أكان حكياً لفظياً أم بصرياً أم جسدياً، باعتبارهما عمودي ثقافة الفرجة.

ويذهب الدّكتور رضا عطية ـ مصرـ إلى جانب آخر من هذا الاستشراف، فيقول تحت عنوان: “التّمثّل المأسوي للمستقبل للمسرح العربي”: “يتبدّى أنّ عوالم المستقبل التي يستشرفها المسرح العربي هي عوالم “الحداثة السائلة” بارتباط أنماط وطرائق العيش الإنساني والتقدُّم التقني للحياة بتفاقم آثار التمدُّد الرأسمالي في المجتمعات والانصهار الكوكبي لهذا العالم، وإذا كانت هناك تجارب متنوّعة في استشراف المستقبل في الفنّ عموماً والمسرح خصوصاً، فإنّ ثمّة مدارات عدّة لتصوّرات متعلّقة برؤية المستقبل واستشرافه في المسرح العربي ذهب بعضها إلى تمثّل أسلوب الحياة الإنسانية في هذا الكون، وركّز غير قليل من هذه الرّؤى على توقّع شكل غرائبي لهيئة البشر في مستقبلهم، خصوصاً بعد غزو الإنسان للفضاء وتوقّع حياة وشكل للإنسان بعيداً عن كوكب الأرض.

ويضيف: “مع استمرار الصّراع والصّدام الإنساني بامتداد تاريخ الإنسانية تبقى ثيمة الصّراع بكلّ أشكاله متعلّقة، لذا تبقى موضوعة الحرب والاقتتال والإبادة والإفناء كإحدى التيمات اللصيقة بالمستقبل وما يقترن فيه من تخوّفات حول مصير العالم وحال البشرية في عالم لا تتوقف فيه الصّراعات ولا تهدأ حدّة اضطراباته ولا تنتهي منه الحروب”.

ويستشهد ها هنا عطية بمسرحية “موسيقا هادئة” للكاتب المصري عماد مطاوع، إذ تمسي اعتيادية القتل وإراقة الدّماء سمة من سمات المستقبل المستشرف في المسرح، بتوقّع حال مأزوم للعالم تستباح فيه الدّماء البشرية، مبيناً أنّه من الظّواهر المأساوية للمستقبل التي يستشرفها المسرح العربي الممارسات التّخريبية بحقّ الطّبيعة الحيّة والإرث الحضاري الإنساني في الدّول الفقيرة خصوصاً، كجانب للتّوحّش الرّأسمالي وعبث القوى العالمية الكبرى بمقدرات الضّعفاء في هذا العالم.

إذاً.. ماذا نحن فاعلون؟ سؤال تجيب عنه الدّكتورة نجوى قندقجي ـ جامعة عمّان الأهلية- الأردن، بتأكيدها العمل على استيعاب تغيّرات العصر الرّقمي، بما يخصّ الموضوع وآليات التّعبير عنه، وعدم التّعالي أو التّغاضي عن المُعاش اليومي، ومواكبة المعالجات الدّرامية لتمظهرات الذّات ودور الفرد في استقبال المحتوى وصنعه في الوسائط الإعلامية، لردم الفجوة مع المتلقي وآليات إدراكه، ومتابعة الجهود نحو تطوير آليات إنتاج الفنّ المسرحي ودعمها، ومحاولة الصّمود أمام التّنازل عن احتياجات العرض، وتشجيع المبادرة التّواصلية مع تجارب المسرح العالمية، وتحطيم الأنماط الثّقافية القديمة البالية، وبناء ثقافة جديدة، من خلال مسرح جديد متحرّر من أسلوب معيّن أو لغة، أو وظيفة اجتماعية أو نمط معيّن من الجمهور.

كما تؤكّد قندقجي ضرورة العودة إلى الكلاسيكية لجلاء المفاهيم التّأسيسية لبناء العمل الإبداعي ومعاييره، بهدف ترسيخ الحداثة كسبيل لتجاوزها، بحمولة غنية من الأدوات المتينة والصّافية، تُكسب محاولات التّجريب، المصداقية بمعنى البناء الإبداعي وليس الهدم.